سمير التقي
TT

لعبتا «الدجاج» و«ماو» والروليت الروسية

ثمة لعبة في الولايات المتحدة تسمى لعبة الدجاج Chicken Game، حيث يسرع سائقان نحو الهاوية، ويكون الرابح من يتوقف في نقطة أقرب لحافة الهاوية.
في الصين ثمة لعبة بالروح ذاتها اسمها لعبة «ماو». تعتمد كلتا اللعبتين على الاستراتيجية والخداع، حيث يتبع اللاعبون قواعد معقدة في محاولة تجنب انكشاف غشهم ونقاط قوتهم وضعفهم. وتحمل كلتاهما طابع المقامرة والمخاطرة والمكافأة، ليقرر كل لاعب متى عليه أن يخاطر ومتى له أن يتراجع.
في الأسبوع الماضي، صدر تصريحان شديدا اللهجة وغاية في الأهمية من المسؤولين الصينيين. التصريح الأول من الرئيس شي جينبينغ الذي تضمن لأول مرة هجوماً مباشراً على الولايات المتحدة، وانتقد ما اعتبره سياسة الاحتواء الأميركية للصين، ومحاولات أميركا إعادة تنظيم تحالفاتها حولها.
تبعه أيضاً تصريح وزير الخارجية الصيني بـ«أن الصين والولايات المتحدة تسيران نحو مسار تصادمي لا يمكن تفاديه».
كان الدارج في التصريحات النارية الصينية أن يجري تفادي ذِكر الولايات المتحدة بالاسم، بل لقد كان من الصعب عليّ أن أجد تصريحات مشابهة في الأرشيف الدبلوماسي الصيني، حتى في بداية التسعينات.
يعتقد بعض الخبراء أن هذه التصريحات قد تستهدف جزئياً الوضع الداخلي. إذ تدرك القيادة الصينية مستوى الضغوط على الاقتصاد الصيني وما يرافقها من انخفاض ملموس في نسب النمو، ليس بسبب أزمة «كوفيد» فسحب، بل وبسبب عوامل داخلية وخارجية عدة في آن معاً. ويدرك المسؤولون الصينيون ذلك تماماً، وهم يستهدفون بلا شك جمهور الطبقة الوسطى التي ستواجه صعوبات في وضعها المعيشي بالقول: إن هذه الضغوط تعود لسياسات الاحتواء ضد الصين التي تقوم بها الولايات المتحدة. كل ذلك صحيح بلا شك.
لكن، لا يمكن أن نعزو مثل هذا الانعطاف في العلاقات الصينية - الأميركية إلى مجرد الحاجة الداخلية. ولعل الأهم هو العملية الواسعة لسحب البنية التقنية والعلمية والصناعية الأميركية من الصين بحيث وصل الأمر إلى حدٍ وضعت فيه إدارة بايدن المهندسين الأميركان العالميين في الصين، أمام أحد خيارين، فإما البقاء في الصين وفقدان الجنسية الأميركية، أو العودة لبلادهم.
ليس هذا فحسب، بل يضاف إلى ذلك الحظر النهائي لوصول التقنيات الفائقة والمتقدمة للصين، ليس فيما يتعلق بتقنيات الشرائح، بل وحتى، الشرائح المتوسطة التقدم.
وفي حين تحتكر كل من الولايات المتحد ة واليابان، عملية تصميم الشرائح الفائقة والمتقدمة والمتوسطة لتقوم تايوان بإنتاجها بواسطة آلات لإنتاج الشرائح، فإن تايوان لا تصنع آلات إنتاج الشرائح، بل لا تنتجها ولا تصنعها في العالم إلا هولندا واليابان والولايات المتحدة. رداً على كل ذلك؛ يكلف الرئيس شي جينبينغ كل القطاعات العلمية ببذل أقصى الجهود لجسر الهوة التقنية في هذا السياق وتعزيز استقلال الصين في مجال الشرائح.
في المقابل، تلاحظ الصين بقلق ظواهر عدة في محيطها الإقليمي المباشر، بل وفي الوضع الدولي العام.
فلقد سرّعت الولايات المتحدة عملية ترميم تحالفاتها في شرق آسيا، وقدمت في سبيل ذلك مغريات استراتيجية كبيرة. وها هي تعمل بكثافة على رأب الصدع بين كوريا واليابان، وها هي تحقق انعطافاً في علاقاتها مع الهند لتصبح هي المزود الرئيسي للتكنولوجيا المدنية والعسكرية والطبية، وها هي ترأب الهوة مع الفلبين بل وإندونيسيا، ناهيك عن فيتنام وسنغافورة. كل ذلك في سياق تعزيز الطوق الاستراتيجي للجزر المحيطة بالصين بدءاً من كوريا ووصولاً إلى الهند.
في المقابل، تبادر الصين لبناء 340 سفينة، منها 60 – 70 غواصة ومنها 12 غواصة نووية، نصفها (أي ست منها) قادرة على حمل صواريخ نووية. كما تخطط الصين لمضاعفة مخزونها من الأسلحة النووية ووسائل حملها بما يصل لأربعة أضعاف.
ورغم أن العقيدة النووية للصين لا تقرّ استخدام السلاح النووي إلا للرد على عدوان نووي، فإن انقطاع وسائل التنسيق والتواصل والتفاهمات بين الطرفين الصيني والأميركي يزيد من حالة القلق وعدم اليقين المحيط، بل يقلب هذا التمترس الخطر، مجمل الوضع الاستراتيجي في آسيا عامة وفي شرقها بشكل أخص.
وفيما يخص روسيا، تراوحت العلاقات الصينية - الروسية على مدى أربعة قرون بين الحرب الحدودية ودعم خصوم بعضهما بعضاً، وبين حالات من الهدوء المتحفز والنسبي. غالباً ما كانت الصين تحتفظ بتسع عشرة فرقة عسكرية على حدودها مع روسيا شرق سيبيريا. وفي حين تحتاج الصين الآن إلى نقل جهدها العسكري للبحر لمواجهة الولايات المتحدة، فإنها تحتاج موضوعياً إلى روسيا في إحدى حالتين:
فإما أن تكون روسيا قوية وصديقة تستمر كشريك أصغر في حل مشكلة الطاقة والموارد الزراعية والمائية، ناهيك عن مناوشة الاستراتيجية وإلهاء الغرب في سوريا ومن ثم أوكرانيا، إلخ.
أو أن تكون روسيا ضعيفة، وفي هذه الحال تستطيع الصين ملء الفراغ الديموغرافي شرق سيبيريا، والاستفادة من مواردها الهائلة في مجال الطاقة والزراعة والماء العذب. ففي حين يكتظ الجانب الصيني من الحدود مع روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى بالسكان ويعاني من العطش والفقر والضعف الشديد في التنمية، فلا شك أن بحيرة بايكال التي تختزن في شرق سيبيريا ما قد يصل لنصف المياه العذبة في العالم، والتي لا يتم استثمارها من روسيا بشكل جدي، ستكون حلاً سحرياً لفرص التنمية وللديموغرافية الصينية في المناطق المحرومة والجافة في شرق الصين.
ورغم ذلك، لا نستطيع أن نقول بعد قرار الصين دعم روسيا عسكرياً في حربها ضد أوكرانيا قد بات نهائياً، لكننا نجد أنه على ضوء التطورات الحاصلة، يبدو أن هذا الاحتمال يتصاعد.
وفي حين تراهن الاستراتيجية الصينية بقوة على أن تصبح حاجة لا غنى عنها للعالم وبخاصة لجيرانها، فإن ثمة مؤشرات لا تحصى على عصبية وتوتر الدبلوماسية الصينية التي تتناقض مع هذه التوجهات. فإن انتقدت دول معينة أداء الصين في مجال حقوق الإنسان في شينجيانغ تسارع الصين لاتخاذ تدابير عقابية. حصل ذلك مع النرويجيين بسبب جائزة نوبل، ومع السويديين بسبب المواطنين السويديين المسجونين في الصين، ومع الاتحاد الأوروبي بسبب العقوبات المفروضة على أعضاء البرلمان الأوروبي الذين اعترضوا على ممارسات حقوق الإنسان الصينية في شينجيانغ، ومع أستراليا من خلال فرض التعريفة الجمركية ضد ثلث الصادرات الأسترالية إلى الصين والتي كلفت أستراليا 30 ملياراً. بل وأكثر من ذلك ضد كوريا الجنوبية بسبب قرارها نشر نظام الدفاع الصاروخي «ثاد» المضاد للصواريخ الباليستية الذي يستهدف كوريا الشمالية بحيث أدت العقوبات الصينية إلى خفض مبيعات «كيا» وغيرها من السيارات الكورية في الصين بأرقام هائلة.
الاحتدام هو عنوان العلاقات الصينية - الأميركية الراهنة. وتتكون بشكل متسارع دوائر التحالفات حول هذين القطبين، وينجم عن ذلك بوضوح، تقطيع كامل لسلاسل الإنتاج والتزويد وتقطيع للبنية المصرفية والمالية للعولمة.
كل ذلك يعني أن العالم يدخل في مرحلة جديدة تماماً. فليست هذه ثنائية قطبية، بل إن ما يجري بناء نظامين متناظرين ومختلفين لعولمتين.
وبذلك يشبه حال العالم اليوم حاله فيما قبل الحرب العالمية الثانية. حيث كانت الحروب تشتعل بين الدول الكبيرة على كل مسارات التجارة والطرق البحرية والموانئ.
لم تكن عمليات الانسحاب من أفغانستان والصراع على «نوردستريم» ولا العقوبات المتبادلة بين دول الباسفيك، ولا التحالفات فيما بينها ولا رفع الميزانيات العسكرية ولا الحشد الصاروخي ولا الطلاق التقني إلا مؤشرات على انشطار العولمة.
بل ليس كل ما ذكرنا إلا رأس جبل الجليد في التخطيط الاستراتيجي لاحتمالات المجابهة. الساحة هنا أكبر بكثير من تايوان، بل لا تعدو تايوان فيها أن تكون مجرد قطبة في نسيج متكامل.
فهل تصبح المجابهة حتمية على حد تعبير وزير الخارجية الصينية؟ نحن لا نتحدث عن احتمالات الصدام المباشر بين الطرفين فحسب، فذلك خطر جدي، لكن ثمة مخاطر أخرى أيضاً؛ إذ إن هكذا صراع قد يحوّل عدداً من الأقاليم في العالم ساحة مفتوحة لمجابهة لا ترحم. ولا يلزمنا خيال كبير كي نتصور الاحتمالات.
سواء بلعبة «الدجاج» أو لعبة «ماو» يتفاقم التصعيد الخلسي والمعلن، والمتسارع نحو الهاوية، فإن مصلحة كل القوى العقلانية في العالم أن تعمل على ترسيخ قواعد للحوار وتعزيز دور المؤسسات الدولية وخلق آليات ثنائية للتواصل والحوار وصولاً لبناء قواعد وخطوط استراتيجية للمنافسة وتجنب الأزمات والتصعيد واحتمالات الحرب بالصدفة.
فبعد الأزمة الكوبية لم يجرؤ أي من الطرفين الروسي والأميركي على الاقتراب من جديد من حافة الهاوية، سواء أكان بلعب لعبة الدجاج أم لعبة «ماو» أم حتى الروليت الروسية.
* كاتب وباحث سوري مقيم في أميركا