كان لافتاً، إبان الزلزال المدمر، ظهور حالة من التعاطف البيني والتضامن عند السوريين في معظم مناطق وجودهم، متجاوزين اصطفافاتهم ومواقفهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية، لم تقف عند عبارات التآخي والمؤازرة التي عمّت مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، وإنما امتدت لتشكيل لجان أهلية بغرض جمع التبرعات المالية والعينية لمساعدة المتضررين وإيواء بعضهم... هي حالة، يحلو للبعض النظر إليها من قناة الحرج الإنساني «الداخلي» بعد تواتر دعم «خارجي» غير مسبوق لضحايا الزلزال، بينما يراها آخرون تعبيراً عن «طيبة» المجتمع السوري، قبل أن تشوهه مصالح الفئات المستبدة والفاسدة، والذي عادة، وكما تشهد له مِحنٌ تاريخية كثيرة، يميل لتغليب الدوافع الإنسانية على السياسية.
لقد أفضى طول أمد الصراع وانحرافه عن جوهريه السياسي والحقوقي إلى أبعاد دينية وطائفية وإثنية، واكتظاظه بعنف مفرط وشحن للعصبيات المتخلفة ولروح التنابز والإقصاء، وإلى انزياحات واسعة في المجتمع السوري، وإلى شروخ فرّقت بين أبنائه تبعاً لمنابتهم واصطفافاتهم وأماكن وجودهم، والأهم لشرط خضوعهم لسلطات متعددة ومتباينة من حيث المشاريع السياسية والحربية، ما فرض على السوريين المحكومين بهذه السلطة أو تلك، نوعاً من الارتباط بها وامتثالاً لقراراتها، وتالياً لما فرضته من وقائع حياتية وأولويات، والنتيجة تحول الوطن الواحد إلى مجموعة من الكتل الاجتماعية المتباينة والمتعارضة في أهدافها وهمومها ومخاوفها ومشكلاتها وطرائق عيشها، منها الكتلة الخاضعة لسيطرة النظام، وأخرى في مناطق الوجود التركي، وثالثة في مدينة إدلب تحكمها الجماعات الإسلاموية المتطرفة، ورابعة في مناطق سيطرة قوات الحماية الكردية، ويمكن بالقياس نفسه تسمية كتلة لها خصوصيتها في محافظتي السويداء ودرعا، وأخرى تضم ملايين السوريين في المخيمات واللاجئين في مختلف البلدان، وقد زاد الطين بلة وعمّق تلك الانزياحات والشروخ والانقسامات، تنوع التدخل الأجنبي وتعدده بالشأن السوري، والعجز الأممي المزمن عن وقف العنف وفرض حل سياسي يفتح بوابة الخلاص.
في المقابل، وبعيداً عما حلّ بالاجتماع الوطني من تهتك وتفكك، وبعيداً عن «الحرج الإنساني» أو الاتكاء على «طيبة» المجتمع السوري، ثمة بالفعل مشتركات تتبلور اليوم بين السوريين على اختلاف مواقعهم واصطفافاتهم، يصح إضافتها أسباباً موضوعيةً لتفسير شيوع تلك الروح الوطنية من التعاطف والتضامن تجاه كارثة الزلزال.
أولاً، تشابه معاناة السوريين وما يكابدونه من أزمة اقتصادية خانقة تعتمل بمختلف المناطق أياً كانت هوية الطرف المسيطر عليها، أهم وجوهها، تدهور الأوضاع الخدمية والصحية، وغلاء فاحش يترك غالبية الناس في حالة عوز شديد أو شبه جياع، الأمر الذي رافقه تنامي إدراك موحد لدى السواد الأعظم من السوريين بأن القيادات المسيطرة جميعها قد فشلت في تنمية مناطقها وإدارة الحياة الاقتصادية فيها، أو في أداء واجباتها بتوفير الخدمات والحاجات الأساسية للمحكومين من قبلها، والأسوأ أنها كانت عنواناً لظواهر الجشع والفساد والابتزاز وهدر الثروات العامة.
كان أمراً طبيعياً أن تلقي سنوات الحرب بحمولتها الاقتصادية على المجتمع، وأن تخلق قاسماً مشتركاً عند السوريين المتضررين، فتفاقمت معاناتهم من تردي أوضاعهم على مختلف الصعد، وأُكرهوا على الانشغال بتسكين آلامهم والبحث المضني عما يمكّنهم من الاحتفاظ بفرصهم في الحياة، سواء كانوا نازحين ومشردين أو مَن آثروا البقاء في بيوتهم وحاولوا التكيف مع دوامة العنف والابتزاز وتدبير لقمة العيش في ظل ظروف أمنية واجتماعية قاسية.
ثانياً، خضوع السوريين لآليات قمع متشابهة تمارسها مختلف السلطات، بغض النظر عن اختلاف شدة القمع واتساعه بين هذه السلطة أو تلك، حيث بات الإنسان البسيط، أنّى وُجد، يدرك أن القوى المسيطرة جميعها هي مجرد وجوه متعددة للفتك والتنكيل من أجل دوام تسلطها وامتيازاتها، والتي لم تتردد في الاستعانة بأدوات قمع وفتك إضافية تمثلها قوى عسكرية أجنبية، لا تعبأ بمصير البلاد ولا يرف لها جفن في قهر كل من يعارض خططها ومصالحها، والقصد هو تماثل الظروف والأوضاع المفروضة قسراً على غالبية السوريين من قبل نخب عصبوية وحلفائها، استباحوا ما وقع تحت سلطانهم من أملاك وثروات واستهتروا بشكل مخزٍ بأرواح الناس وبأبسط حقوقهم السياسية والاجتماعية والقانونية، سواء المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، أو حقوق التعليم والصحة، أو حق الاحتكام إلى قضاء نزيه ومستقل.
والنتيجة، تبلور حقيقة بات يدركها السوريون كافة، بأن حكومات الأمر الواقع، تتماثل في تجاهلها للأهداف والحقوق الجامعة، وفي استهتارها بالسيادة والثروات الوطنية، وفي استسهالها استجرار قوى خارجية، دولية وإقليمية؛ لتعزيز فرص استمرارها، حتى لو أفضى ذلك إلى الخضوع لإملاءات تلك القوى وتحويل البلاد إلى ساحة صراع ومناورات ومقايضات، ما ينزع عن هذه الحكومات جميعها الصفة الوطنية، ويؤكد جوهرها باعتبارها حكومات أنانية لا يهمها سوى الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها الخاصة من دون اهتمام بما يخلفه ذلك من أزمات ومآسٍ على مصير الوطن ومستقبل أجياله.
صحيح أن الانقسام السوري تنامى وتشعّب كثيراً بحكم تداعيات الحرب والتخندقات التي فُرضت على الناس، وبات مصدر تحسب وقلق من إمكانية ترسيخه انقساماً دائماً، يعزز ذلك مطامع قوى الاحتلال الأجنبي، لكن الصحيح أيضاً، وعلى الرغم من بشاعة ما حصل، ووضوح ظواهر التفكك والانقسام، فإن التعاطف البيني اللافت بين مختلف المكونات السورية تجاه كارثة الزلزال أثار، ولنقلُ نثر بعض الأمل بإحياء الاجتماع الوطني، ربطاً بوضوح وتنامي وحدة المعاناة والألم، التي ربما تشجع السوريين على تغليب أسباب التضامن واللحمة على نوازع التفرقة والتمييز.
والحال، ألا تستدعي الأزمات والصعوبات المتشابهة التي يكابدها السواد الأعظم من السوريين، البحث المشترك عن مخرج حقيقي من حياة لم تعد تطاق؟ وألم تنضج لديهم، بعد جسامة ما قدموه من تضحيات، إرادة وطنية جامعة تَحول دون استخدامهم أدوات لتأبيد التسلط والاستبداد أو وقوداً في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ أليس ثمة حاجة مشتركة لدى غالبيتهم في تخليص مجتمعهم من «أشراره» ومحاسبة المرتكبين كافة، أينما كانوا؟
8:2 دقيقه
TT
ما يجمع السوريين وما يفرقهم!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة