محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

الكاتب اللبناني حصدَتْ روايته اثنتين من أهم الجوائز العربية خلال هذا العام

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.



القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن
TT

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

القاهرة وأزمنتها الغابرة في سردية مفعمة بالشجن

يتخذ الكاتب والقاص المصري هشام أصلان من عنوان مجموعته القصصية الجديدة «ثلاثة طوابق للمدينة»، الصادرة عن «دار الشروق» في مصر، مدخلاً لاستكشاف مُستويات الحياة، وأحلامها، في مِعمار سردي مُكثَّف يتكوَّن من خمس عشرة قصة قصيرة، ينطلق فيها الكاتب من وجهة مركزية -وهي «القاهرة، وأرواح العابرين»- التي يُهدي إليها مجموعته.

تكشف كل قصة في المجموعة القصصية شيئاً من تعقيدات المدينة، وصورتها الهاربة التي يبحث عنها السارِد بين ضواحيها وأزقتها التي تحتفظ بوجهها القديم المفعم بالشجن والحنين. وبرغم تنوُّع الحكايات، فإن الرُّواة تجمعهم آصرة خاصة مع المشي الذي يترك بصمته الحركية على إيقاع القَص، وتجعلنا أمام سرد مُترجل، يعتني بترسيم المكان واتجاهاته ومُفترقاته، ليبدو الرُّوَاة وكأنهم يتلقون العالم عبر وقع خطواتهم على الأرض، بينما يصبح المشي بطلاً يتشكَّل تدريجياً ويتنوع بخطوات الرُّوَاة؛ مشكلاً جسراً لتعرف بعضهم على بعض، وهم يتشاركون دروب المدينة، الوديعة منها والموحِشة.

أصحاب المساء

تلتقط القصص تفاصيل تُبرز اليومي والبسيط كحالة مركزية في المجموعة، كما تشحذ حالة من الجمالية الخاصة بين تناقضات المدينة؛ حيث يُعمِّق هذا التنافر الظاهري شاعِرية تجد ذروتها خلال ساعات الليل التي يلوذ بها الأبطال من مُلاحقة القُبح لهم، فالراوي في قصة «مدينة وراء الليل» يقول: «الليل يعرف أن المدينة تُحبه أكثر. يعرف أنها ليست من مدن النهار؛ حيث تتحوّل إلى دُمية عملاقة تأكل سكانها مبتسمة. متجاوزة دورها كمدينة، تزحف فوق أرواح هؤلاء السُّكان، متنازلة عن أي معنى للجمال والحياة، بحركة حياتية مضمونة الشقاء، بينما يستطيع قلبها ليلاً أن يستقل، ويتجلى كقطعة منفصلة عن تلك الضواحي الممتدة، ويوفِّر شيئاً من الحياة لأصحاب المساء»، ويبدو في تلك القصة تورُّط المدينة، وظهورها؛ ليس كفضاء مكاني مُجرَّد؛ بل وكأنها في موضع مساءلة ومُحاكمة.

لا يسعى الكاتب إلى منح عالم أبطاله ملامح سوريالية تُغيِّر من طابع واقعهم؛ بل يُفجر من ذلك الواقع الصِّرف سِحره الخاص الذي يمنح لأبطاله حضوراً أسطورياً في بعض الأحيان، مستفيداً من ثقافة «الأولياء» الشعبية، و«الحكايات المتوارثة»، كما في قصة «صاحب كرامة الشتاء» الذي ينسج أهل القرية حوله أسطورة يتوارثونها، فتخلد حكايته بينهم لمئات السنوات، وتلقي ظلالها عليهم كما سعف النخيل والطائرات الورقية.

ليلة الأمنيات

يُنوِّع الكاتب هشام أصلان من تقنيات ظهور أبطاله وأصواتهم، لتتراوح كادرات القصص بين النظرة البانورامية، والبورتريه الشخصي، كما في قصة «مراحل زينب» التي تضيء على شجون من شاركونا الطُّرقات نفسها ثم رحلوا، في سردية شجيَّة عن تبدلات الزمن، وتبدو قصة «الغريب المبتسم» التي كُتبت بلسان طفل، أقرب لسرد سينمائي يتنقل بعدسته بين رُعب المدينة الفاضح وصُدفها بالغة الدهشة.

وفي قصة «ابتسامة من الماضي»، يُكثِّف الكاتب الزمن ويُحاصر بطله، في سياق مُشبَع بالنوستالجيا داخل استوديو تصوير فوتوغرافي؛ حيث يتساءل البطل: «في أي زمن أعيش هذه اللحظة؟» بينما تختلط الصور الفوتوغرافية، في اللحظة التي تُحدِّق إليه فيها من فاترينة المُصوِّر، مع الشريط الصوتي للشارع الشعبي الذي يغمره بالمشاعر، فبدَت اللحظة أقرب لومضة متوهجة بالخيال: «انسحب الضوء المار عبر الفراغات بين الصور المُعلقة، ورأيت هلالاً نحيلاً باقياً من قرص الشمس المتواري خلف البنايات. وسمعت صوت خبطات معدنية مميزة لمفتاح إنجليزي يُقرَع على أنبوبة بوتاجاز. كنت أحاول استيضاح مكان بائع الأنابيب، فوجئت بابنة المُصوِّر القديم تُطل مبتسمة من إحدى الصور المُعلقة على الفاترينة، وأخذتني خضة مخلوطة بالسعادة».

تطرح المجموعة نبرة ساخرة من المعجم الحديث لأهل المدينة الذي يعكس تغيُّراتها الاجتماعية وانحيازها للتصنيفات المُعلبة مثل: «الإعلامي الشهير»، و«مطربة المثقفين» في وقت تبدو فيه المقابر بأحراشها أكثر تحرراً ومنافسة للحياة خارج أسوارها. فبطل قصة «مهرجان ليلي صغير» تقوده مُفارقة تضطره للعبور بمنطقة مقابر، فيجد نفسه في قلب هذا المشهد الصاخب: «هناك محل بقالة، ورش تصليح سيارات، باعة ألبان، فتارين صغيرة تبيع الحلوى. رغم هذا، لم أستطع استيعاب مشهد هؤلاء العمال، وهم يُفككون أفرع لمبات الكهرباء الملونة، وبقايا صوان كان منصوباً لفرح شعبي في قلب المقابر».

أما في قصة «خطة استدعاء الوحدة» فقد ضيَّق الكاتب حدود المكان، ليُحاصِر مشاعر بطله الوحيد في ليلة «رأس السنة»، باعتبارها ليلة الأمنيات الصاخبة، وهو يُعدُّ نفسه لخطة احتفال فردية، يضع فيها مسافة بينه وبين العالم الذي يُطل عليه من نافذة بيته: «الآن، كل شيء جاهز تماماً، أنا رجل وحيد يستطيع أن يسخر من العالم وقسوته بارتياح، وفي الغد أعِدكم وأعِد نفسي أن أعاود الابتسام المُتعشِّم في لطافة الحياة، مثلما يفعل الرجل الوحيد الوسيم في الأفلام الأجنبية».