داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الرجل الجالس على «الدَّكة»!

يعرف كثيرون قصة مخترع المصباح الكهربائي توماس أديسون الذي تمكن من النجاح بعد 999 محاولة فاشلة، واتهمه الجميع بالغباء طوال حياته تقريباً. وهذا شخص آخر اسمه والاس جونسون قضى نصف عمره عاملاً في ورشة أخشاب وتم طرده من العمل في سن الأربعين، ورهن منزله الصغير وبنى منزلين صغيرين آخرين ثم باعهما فور أن نجحت تصميماته الشخصية. وبعد خمس سنوات قرر بناء أول فندق يملكه وأطلق عليه اسم «هوليداي إن» وهو الفندق الذي تجد له فروعاً في معظم عواصم العالم. ومن العدم إلى الشهرة ملخص حياة أنجح ممثل كوميدي في العالم شارلي شابلن، ففي السادسة والعشرين من عمره كان أكثر شهرة من الملوك والأباطرة والرؤساء والفلاسفة ورجال الدين.
هذه نماذج سبقت العالم المصري الشهير فاروق الباز الذي كان مناخه اليومي الجلوس على «دَكّة» في أي رصيف بانتظار العثور على فرصة عمل تنقذه من البطالة، كما قال في لقاء تلفزيوني قبل فترة مع المذيع المصري تامر أمين.
طبعاً أنا لستُ أول كاتب يتناول سيرة عالم الفضاء فاروق الباز، لكني أروّج للشباب الذين يتصورون أن الأفق مغلق أمامهم، فإذا به يتسع لكثيرين من المتعلمين والمثقفين والعلماء والأدباء والمفكرين والمخترعين العرب.
إذا أردنا أن نضرب المثل بشخص ناجح ومثالي وعصامي ومتميز ومبعث فخر لبلده وشعبه، فلن نختار غير العالم العربي المصري الموسوعي الدكتور فاروق الباز، هو مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن، مصري ويحمل الجنسية الأميركية. ولد في عام 1938 من أسرة بسيطة في الزقازيق. حصل على شهادة البكالوريوس في الكيمياء الجيولوجية من جامعة عين شمس، ثم نال شهادة الماجستير في الجيولوجيا من معهد المناجم وعلم القارات في الولايات المتحدة، وهي دراسة فريدة من نوعها ومستحدثة في الولايات المتحدة. ولأنه يريد أن يستمر في التعلم تخصص أيضاً في الجيولوجيا الاقتصادية. ولأنه أيضاً باحث نادر وصبور نال شهادة الدكتوراه في فلسفة علم الجيولوجيا من جامعة ميسوري للعلوم والتكنولوجيا. وكل هذه التخصصات صعبة وعسيرة ومن النادر أن تجدها في الجامعات العربية قبل الستينات من القرن الماضي؛ ولهذا السبب اختاره الرئيس الراحل أنور السادات في عام 1978 ليكون مستشاراً علمياً له في مصر، وتم تكليفه انتقاء المناطق ذات الأراضي القابلة للاستصلاح في الصحراء دون إلحاق أضرار بالبيئة، ومنحه السادات وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى. ومن الصدف أن الرئيس الراحل حسني مبارك اختار شقيق فاروق، أسامة الباز، ليكون المستشار الأعلى والمبعوث السياسي له في المهمات الدقيقة والسرية. وهذا الرجل لا يقل بساطة وشعبية عن شقيقه العالم البارز فاروق الباز، وكثيراً ما كنت أصادفه ماشياً على قدميه في شوارع حي الزمالك المكتظ بالسفارات العربية والأجنبية، إلى أن توفي عام 2013 ودُفن في مقابر القوات المسلحة بمدينة نصر.
عمل فاروق الباز في وكالة «ناسا» الفضائية للمساعدة في الاستكشاف الجيولوجي للقمر، كاختيار مواقع هبوط رواد الفضاء من بعثات «أبوللو» وتدريبهم لاختيار عينات من تربة القمر وينقلونها إلى الأرض للتحليل والدراسة.
لو استعرضنا المناصب والوظائف التي تولاها فاروق الباز لما صدقنا أنه بعد تخرجه الجامعي كان يسعى يومياً للحصول على أي وظيفة لإطعام زوجته وبناته، وكان يجلس على «دَكَّات» الجامعات ومراكز الأبحاث ساعات طويلة للحصول على أي وظيفة، ويبحث عن أي وسيط يسهّل له التعيين وسبل العيش.
ما أبسط هذا الرجل وتواضعه مقابل شهاداته الرفيعة، وهو يتحدث عن تلك الأيام في التلفزيون بكل صراحة وابتسامته على وجهه، ويكرر القول إنه لا يعشق إلا المزيد من البحث والتعلّم دون ضيق أو ملل. وبعد أن وجد وسيطاً لتعيينه انهالت عليه المناصب: أستاذ البحث العلمي ومدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن، وأستاذ الجيولوجيا في جامعة عين شمس في القاهرة. وعضو في مجلس «الثقات» في مؤسسة الجمعية الجيولوجية الأميركية في كولورادو، وعضو مجلس القادة بمؤسسة البحث والتطوير المدني للدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق، وهو كذلك عضو في الأكاديمية الأميركية الوطنية للهندسة. وقام هذا العالم المجتهد والمُجد صاحب الوجه المبتسم بتأسيس مركز دراسات الأرض والكواكب في المتحف الوطني للجو والفضاء في واشنطن.
أكثر من كل هذا، عمل في الفترة من عام 1967 إلى عام 1972 مشرفاً على التخطيط للدراسات القمرية واستكشاف سطح القمر والكواكب في المتحف الوطني للجو والفضاء في واشنطن، بالإضافة إلى المشاركة في تقييم برنامج «ناسا» للرحلات المدارية للقمر وإعداد مهمات رحلات «أبوللو» على سطح القمر. إنه يصرّ على معرفة علاقة تكوين القمر بتكوين الأرض، وهو في هذا يذكرنا بالسيدة الرحبانية الراقية فيروز التي غنّت للقمر إلى أن أصبحت جارة القمر. لكن العالم فاروق الباز لم يكتفِ بمسح سطح القمر؛ ولذلك أطلق الاتحاد العالمي للفلك التابع للأمم المتحدة اسمه على أحد الكويكبات لدوره مع وكالة «ناسا» بدايةً بمشروع «أبوللو» مروراً بتصوير الأرض من المدار على رحلة «أبوللو» الأميركية – الروسية المشتركة. وكانت له يد في تصوير جيولوجيا نهر النيل ونهري دجلة والفرات.
لاحظ فاروق الباز أن رواد الفضاء وكل العاملين في «ناسا» كانوا قلقين على نجاح رحلة «أبوللو 15» بعد إدخال تحسينات متعددة لمركبة الفضاء، فأشار عليهم الباز بأن يأخذوا معهم سورة الفاتحة لتحميهم ويكون الله معهم. وفعلاً قام فاروق الباز بطبع سورة الفاتحة على ورقة في بيته، وسجّل هو وبناته اسم كل منهم على الورقة، ثم أدوا الصلاة الإسلامية يوم انطلاق الرحلة والدعاء بأن تتم رحلة الرواد على خير، وقام الباز بوضع سورة الفاتحة في حافظة من البلاستيك وسلّمها إلى أحد رواد الرحلة التي أدت مهمتها وعادت إلى الأرض بسلام.
ولم يكتفِ الباز بدراسة سطح القمر؛ إذ استخدم خلال العقدين الماضيين صور الأقمار الصناعية لدراسة وفهم الصحاري الأرضية، والتأكد من أنها ليست من صنع الإنسان، لكنها نتيجة لتغيرات مناخية. وأظهرت الأبحاث اكتشاف أنهار عديدة مدفونة تحت رمال الصحراء وينابيع الصحاري. نال الباز جوائز كثيرة عن بحوثه وإنجازاته، لكنه لم يصل إلى جائزة نوبل، إلا أن مَدرسته الابتدائية حملت اسمه، وهو يفخر بهذا التكريم أكثر من جائزة نوبل. وأنشأت الجمعية الجيولوجية الأميركية جائزة سنوية أطلقوا عليها «جائزة فاروق الباز لأبحاث الصحراء». بينما بخلت هيئة البريد المصرية بإصدار طابع بريد يحمل صورته! وهو أحد مفاخر العرب في كل مكان.
وهو إلى جانب هذا الجهد، زار معظم مناجم أوروبا والولايات المتحدة ليعرف ويقارن بين محتويات هذه المناجم ومناجم القمر. وبكل تواضع قال الباز إنه سافر إلى كوالالمبور مع فريق عمل ليعرف كيف تطور التعليم في ماليزيا. لم يتحدث عن التعليم الأوروبي أو الأميركي أو الألماني، لكنه ذهب إلى دولة آسيوية نامية فيها مشاكل كثيرة إلا أنها اهتمت قبل كل شيء بالتعليم لأنه أساس التقدم.
يا لحظ تلك «الدَّكة» التي جلس عليها هذا الرجل!