داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

لَملَمتُ ذكرى لقاء الأمس بالهدبِ

للشاعر العراقي المتميز حميد سعيد صفة خاصة في إبداعه، وهي القصيدة الخبرية الصحافية؛ فهو لم ينسَ أنه كان رئيس تحرير أكثر من صحيفة عراقية ناجحة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وفي اتصال هاتفي معه مؤخراً سألته عن شاعر عراقي من النجف كان يعمل في منتصف السبعينات من القرن الماضي في هيئة رقابة المطبوعات بوزارة الإعلام التي كنت أتولى مسؤوليتها آنذاك.
الشاعر اسمه مسلم الجابري وهو يرتدي ملابس دينية. وكانت مهمته في الرقابة هي أغرب «وظيفة» في العالم على حد علمي وانفرد بتوليها، وهو الرقيب الوحيد على البريد الوارد من صحف ومجلات وبيانات ورسائل وتسجيلات صوتية «كاسيتات» من شتى دول العالم كل يوم، إلى زعيم الثورة الإيرانية الخميني، الذي كان منفياً من قبل شاه إيران محمد رضا بهلوي إلى العراق، قبل إصرار الشاه على ترحيله من النجف إلى باريس. وكان هذا هو الشرط الوحيد للشاه في لقاء ثلاثي نظمه وأداره الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين وحضره نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي صدام حسين وشاه إيران، الذي تعهد وقف دعمه المسلح للأكراد ضد النظام العراقي.
كان الشاعر مسلم الجابري يتقن اللغة الفارسية، والبريد اليومي الذي يصل إلى الخميني أكثر مما يرد لشاه إيران؛ فالطوابع الملصقة على الرسائل البريدية تفتح معرضاً لطوابع العالم من أستراليا إلى اليابان، ومن الصين إلى الولايات المتحدة، ومن أوروبا إلى القارة القطبية، ومن طهران إلى بغداد، ومن الاتحاد السوفياتي إلى المكسيك. ففي زمن الشاه، هاجر مئات الألوف من الإيرانيين إلى أرض الله الواسعة بسبب اضطهادهم من قبل «السافاك»، أي منظمة المخابرات والأمن القومي الذي لا يرحم أحداً، قبل أن نصل إلى مرحلة حكم الخميني ثم خامنئي وقاسم سليماني والحرس الثوري والقنابل النووية. كنا في العراق آنذاك قبل الحرب نهيم طرباً بأغاني الفنانة الشهيرة كوكوش، خصوصاً بعد أن أقامت عدة حفلات ناجحة في بغداد أيام شبابها... وما زالت شابة.
وفجأة، على طريقة جيمس بوند، اختفى مسلم الجابري. لا أحد يعرف مصيره أو سبب اختفائه. شاعر طبعت له وزارة الإعلام العراقية ديواناً شعرياً وله علاقات «خاصة» مع المخابرات العراقية. وبعد أسابيع عرفنا أنه هرب إلى إيران ثم إلى الأحواز، وانقطعت أخباره إلى أن وصل إلينا نبأ وفاته في إيران بعد سنوات.
لكن هناك في لبنان قصة شاعر عربي آخر اسمه علي محمد جواد بدر الدين (1949 - 1980)، وهو رجل دين أيضاً درس في النجف، وغنت له جارة القمر فيروز قصيدتين تعدّان من أجمل ما غنت في تاريخها الفني. وكان هذا الرجل يكتب شعراً رقيقاً شفافاً، وأطلق عليه زملاؤه صفة «السيد الذي غنت له فيروز».
كان علي بدر الدين إمام بلدة جاروف ضمن قضاء النبطية في الجنوب اللبناني. وسافر بدر الدين إلى النجف عام 1969 طالباً العلوم الدينية وتفرغ لدراسة الفقه، وانتمى إلى الرابطة الأدبية في النجف التي كان يرأسها السيد مصطفى جمال الدين، وهو قطب من أقطاب الشعر والخطابة والندوات الثقافية في العراق. وكان الفتى الشاعر بدر الدين يزور بلدته وأهله خلال الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات. وعانى في ظل الحرب ضيق ذات اليد معتمداً على منحة الحوزة الدينية التعليمية العراقية. وأشار عليه أحد معارفه أن يبيع بعض قصائده لمن يلحنها. فوافق بشرط عدم الإشارة إلى اسمه إذا غناها أحدهم. وفعلاً اشترى عاصي الرحباني قطب المدرسة الرحبانية الفيروزية قصيدتين غنتهما السيدة فيروز بصوتها الأسطوري. يقول مطلع القصيدة الأولى:
«أنا يا عصفورة الشجن... مثل عينيك بلا وطنِ
بِي كما بالطفل تسرقه... أول الليل يد الوَسَنِ
واغتراب بي وبي فرح... كارتحال البحر بالسفن
راجع من صوب أغنية... يا زماناً ضاع في الزمن
أنا يا عصفورة الشجن... أنا عيناك هما سكني
أيُّ وهمٍ أنت عشْتُ به... كُنتَ في البالِ ولم تَكُنِ»
أما القصيدة الثانية فمطلعها:
لَملَمتُ ذكرى لقاء الأمس بالهدبِ
ورحتُ أحضرها في الخافق التعبِ
أيدٍ تلوّح من غيبٍ وتغمرني بالدفء والضوء بالأقمار بالشهبِ
في نوفمبر (تشرين الثاني) 1980، عُثر على جثة رجل دين ثلاثيني في أحد وديان جنوب لبنان. اخترقت جسده عدة رصاصات قاتلة، وعلى الجثة ظهرت آثار تعذيب وحشي. وتم التعرف على هوية الشيخ الشاب القتيل؛ وهو السيد علي بدر الدين إمام بلدة جاروف في قضاء النبطية الذي اختفى وهو في طريقه إلى المسجد قبل بضعة أيام من العثور على جثته. والمشهد المسرحي الدرامي يشبه ما تعرض له الصحافي اللبناني الكبير سليم اللوزي صاحب مجلة «الحوادث» المتميزة، وفي التاريخ نفسه تقريباً، الذي تم فيه اختطافه وتعذيبه وقتله، كما فعلوا مع صاحب أغنيتي فيروز علي بدر الدين. كانت المخابرات السورية في تلك الحرب الأهلية اللبنانية متورطة في الاغتيالات السياسية، ولم تنفع التحذيرات بدر الدين ولا سليم اللوزي؛ فقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية، والسيطرة العسكرية والسياسية السورية على لبنان تحصد أصحاب العقول والآراء الحرة من دون تردد.
ما دمنا في حديث الشعر والشعراء ورائحة الدم، نعود إلى أديبنا المبدع حميد سعيد؛ فقد نظم قصيدة بعد اغتيال علي بدر الدين تحت عنوان: «مرثية متأخرة جداً» أهداها إلى الشاعر الشهيد في عام 1985 مطلعها:
بين وقت الصلاة... ووقت القصيدة
خيط من الدم
يمتد من ركعة الفجر حتى نجوم السماء
أيها السيد الطفل
تلك مغامرة... أن نُبدل وهج قصائدنا
بأريج الدماء
.....
لقد قتلتك القصيدة.
أعرف أن الرصاصة آتية من يدٍ
تتباهى بما فعلت.
وانتقلت العدوى إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003، وتم اغتيال علماء وأطباء وقادة عسكريين وأساتذة جامعات ورجال مخابرات وشعراء وصحافيين. وكان أول مطرب عراقي تم اغتياله هو المرحوم داود القيسي نقيب الفنانين لأنه غنى للجيش العراقي في الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988). وقد دخلت المخابرات الإيرانية علناً إلى ساحة الاغتيالات في العراق تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الأميركي في الشوارع والمؤسسات والجامعات والمنازل والمعسكرات، وانتقلت من دون أي تردد إلى اغتيال المتظاهرين العراقيين والنشطاء السياسيين المطالبين بطرد المحتلين الإيرانيين وعملائهم وأحزابهم وحرسهم الثوري وحلّ ميليشياتهم الإرهابية.
يا زماناً ضاع في الزمن.