عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

هل يستطيع السودانيون التوافق؟!

السودانيون من الصعب أن يتفقوا على رأي واحد، لا سيما في السياسة، وهم من مدمنيها المغرمين بالجدل حول كل تفاصيلها. لهذا لم يكن غريباً الانقسام والجدل حول «الاتفاق الإطاري» الموقّع في الخرطوم يوم الاثنين الماضي بين أطراف من القوى المدنية والمكون العسكري في محاولة جديدة لإيجاد حل للأزمة السودانية المعقدة. نظرة واحدة إلى عدد الموقّعين على الاتفاق كافية لتأكيد عمق الأزمة، ومدى تشرذم القوى السياسية والمدنية، وصعوبة إن لم يكن استحالة التوصل إلى توافق وإجماع في الآراء والمواقف.
مع تفهمي شكوك المعارضين، إلا الاتفاق في تقديري يستحق وقفة متأنية، والتعامل معه على أنه وثيقة أولية قابلة للتطوير والتعديل، وهو بالفعل كذلك لأنه ليس اتفاقاً نهائياً، بل خطوة يفترض أن تعقبها مشاورات مع القوى المتحفظة والمعارضة بهدف توسيع المشاركة، والكرة بذلك في ملعب المدنيين.
من السهل جداً القول، إن هذا الاتفاق مرفوض، وإنه لا يلبي كل المطالب والطموحات. لكن ما هو البديل؟ وما هو السبيل لإنقاذ السودان من الوهدة التي تردى إليها، ومعالجة الظروف الضاغطة على الناس في معيشتهم وأمنهم، ووقف الانزلاق نحو حرب أهلية تمزق البلد وتفكك أوصاله؟
الثورة التي انطلقت في ديسمبر (كانون الأول) 2018 ستكمل بعد أيام قليلة عامها الرابع وتبدأ عاماً خامساً من التضحيات الكبيرة التي قدمها شبابها وبعض شيبها. خلال هذه السنوات حققت الكثير من المكاسب، وتعرضت لنكسات كان السبب الرئيسي فيها استمرار الخلافات والصراعات، وفشل القوى المدنية في الاتفاق على رؤية موحدة تضمن تماسك الفترة الانتقالية، والسير بها وسط المطبات الكثيرة لإكمال الانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي.
هذه الصراعات والمماحكات أضاعت فرصاً ثمينة لتحقيق مطالب الثورة عندما كانت في عنفوانها، وعوقت عمل حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، وأتاحت الفرصة للمتربصين من فلول النظام السابق وبقايا دولته العميقة لإثارة البلبلة وزعزعة الأوضاع، وفتحت المجال أمام المكون العسكري لإطاحة تلك الحكومة. النتيجة، أنه بعد مرور أربع سنوات لم يتحقق الانتقال للحكم المدني الديمقراطي، ولم يتمكن الطرف المدني من إبعاد المكون العسكري عن المشهد.
هذا الأمر يستدعي النظر إلى الاتفاق الإطاري بطريقة تتجاوز مجرد الرفض، وتتوخى التفكير في إمكانية تحويله إلى واحدة من أدوات العمل النضالي السلمي لتحقيق أهداف الثورة ومطالبها. بنود الاتفاق فيها الكثير من النقاط التي شكّلت مطالب الثورة السودانية، بل إن بعضها عالج أوجه القصور في مكامن الخلل في الوثيقة الدستورية التي وقّعتها قوى الثورة مع المكون العسكري عام 2019 وأسست للشراكة بين الطرفين.
«الاتفاق الإطاري» الجديد لو حقق فقط انسحاب الجيش من السياسة أو سحبه منها، يكون قد سجل أكبر وأهم إنجاز في الحياة السياسية السودانية منذ الاستقلال. هناك قضيتان أخريان في الاتفاق الإطاري تكتسبان أيضاً أهمية كبرى في نظر أكثرية السودانيين، وهما دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وتسريح ودمج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفق النظم والضوابط السارية في الجيش. فتعدد الحركات المسلحة، وانتشار السلاح من أكبر مهددات الأمن والاستقرار في البلاد، وربما من أكبر أخطاء اتفاق جوبا للسلام الموقع في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، أنه سمح بدخول قوات الحركات المسلحة للعاصمة مما أسهم في التردي الأمني وأضاف لتعقيد المشهد السياسي بعدما أصبح قادة هذه القوات يستخدمونها ورقة للتهديد والضغط والمساومة. المكون العسكري تلكأ أيضاً عن عمد في تنفيذ الترتيبات الأمنية التي بموجبها كان يفترض تسريح ودمج الحركات المسلحة في القوات النظامية، وهو أمر بدا واضحاً أن الغرض منه إحداث المزيد من الإرباك في الساحة السياسية وتعقيد الحلول.
الاتفاق الإطاري فيه نقاط أخرى عديدة مهمة مثل تقييد عمل المؤسسة العسكرية والأمنية في النشاط الاقتصادي والاستثماري وحصره فقط في التصنيع الحربي، وفتح الباب أمام مراجعة اتفاق جوبا للسلام لمعالجة بعض أخطائه الكارثية، واعتبار السلطة الانتقالية مدنية بالكامل وبصلاحيات أوسع مما كان لدى حكومة حمدوك، وترسيخ مبدأ العدالة والمحاسبة والكشف عن الجرائم ومحاسبة مرتكبيها، وإصلاح الأجهزة العدلية، وغيرها من النقاط التي يمكن النظر إليها بإيجابية.
المحك سيكون في التنفيذ وكيفية نقل البنود من التنظير إلى التطبيق، وهو ما يعني أن قوى الثورة لو تكاتفت فإنها يمكن أن تضع «الاتفاق الإطاري» أمام الامتحان الأهم، وتحوله إلى ورقة قوية في يديها ضمن الأدوات الأخرى في نضالها لتحقيق الانتقال للحكم المدني الديمقراطي. المهم رفض فكرة التخوين، وحفظ حق الاختلاف.
والمعارضون للاتفاق يمكن أن يحولوا هذه المعارضة إلى قوة إيجابية تصبّ في مصلحة تصحيح المسار وتحقيق أهداف ومطالب الثورة. بمعنى آخر، سوف تستفيد الثورة لو أن المعارضين وحّدوا صفوفهم والتفوا حول رؤية موحدة، ليشكّلوا قوة ضغط موازية تمنع المكون العسكري من الالتفاف على الاتفاقات، وتعمل لتعديل الاتفاق ومعالجة أي نواقص فيه. في الوقت ذاته ليس هناك ما يمنع هؤلاء من الاستمرار في تعبئة الشارع، وتنظيم المواكب؛ لضمان تحقيق المطالب التي من أجلها قامت الثورة. بذلك تكون قوى الثورة تعمل على أكثر من خط، وتستخدم كل الأسلحة المتاحة لديها ضمن مفهوم نضالها السلمي لضمان تحقيق أهدافها لاستكمال الانتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي والوصول إلى محطة الانتخابات.
ليس هناك من خلاف على أن السودان يعيش أزمة سياسية عميقة، وأن الأوضاع ضاغطة على الناس الذين يريدون مخرجاً يرفع عنهم أعباء الحياة، ويعيد لهم الأمن الذي افتقدوه، وينقذ البلد من الفوضى ومن انتشار السلاح، ومن مخاطر التفكك بعد أن بدأت الأقاليم والقبائل تتسلح. هذه الظروف مجتمعة لا تسمح باستمرار الصراعات والمماحكات حتى لا يبقى البلد يدور في حلقة مفرغة تقوده إلى ما لا يحمد عقباه. وأولى الخطوات المطلوبة تركيز الجهود على كيفية استعادة الفترة الانتقالية لمسارها، وتشكيل حكومة مدنية تنتشل البلد من الفراغ السياسي الذي يعيشه منذ أكثر من سنة، وتهيئ الاستفادة من فرصة أن المجتمع الدولي لا يزال راغباً في استئناف دعمه للبلد، قبل أن يتبدد هذا الاهتمام، والأهم من ذلك السير نحو الهدف الأساسي للثورة وهو تحقيق التحول للحكم المدني الديمقراطي عبر صناديق الانتخابات ومفهوم التداول السلمي للسلطة.