د. أحمد عبد الملك
كاتب واكاديمي قطري
TT

العبودية الطوعية

يحدد «مختار الصحاح» العبودية بأنها أصل الخضوع والذل، والاستعباد اتخاذ الشخص عبدا. والعَبد ضد الحر، وجمعهُ عبيد ويقال: (تعبّده) أي اتخذه عبدا.
وجاءت كلمة العبودية (Slavery) خلافا للحرية، كما أنها تأتي صفة لدول مستبدة من قبل دول أخرى، وتستخدم للدلالة على خدمة إجبارية، كما هو الحال في السجون (الأعمال الشاقة المؤبدة). كما ارتبطت الكلمة بتجارة الرقيق الأبيض (White Slavery). وكانت العبودية سائدة أيام الإمبراطورية الرومانية، كما مارس الأوروبيون تجارة الرقيق في القرن الخامس عشر. وقام البرتغاليون بإرسال العبيد الأفارقة قسرا إلى العالم الجديد (أميركا) منذ عام 1444.
كما مارست بريطانيا العبودية في أميركا اللاتينية منذ منتصف القرن السادس عشر. أما تاريخ إلغاء العبودية فيعود إلى القرن السابع عشر، حيث كانت الدنمارك أول دولة تلغي تجارة الرق، وتبعتها بريطانيا وفرنسا وأميركا، حيث نص الدستور الأميركي على إلغاء العبودية عام 1865. ثم تأكدت قرارات الدول بظهور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر (كانون الأول) عام 1948.
أما الطوعية.. فيحددها «مختار الصحاح» بقوله: (طَوْعُ) يديه، أي منقاد له. والتطوع بالشيء التبرع به، و(طوّعت) له نفسه قتل أخيه، رخّصت وسهّلت. وورد في «لسان العرب» أن (الطَوْع) نقيض الكُره، طاعه يُطوعه وطاوعه. والاسم الطّواعة والطّواعية، ورجل طيّع أي طائع، ورجل طائع وطاعٍ، مقلوب كلاهما مطيع، كقولهم: عاقني عائقٌ وعاقٍ.
تعريف المصطلحين كان لا بد منه، لكي نتلمس الطريق نحو قراءة مقال اليوم. فلقد نُكب العالم العربي باتجاهات سياسية وآيديولوجية منذ بداية الدولة العربية بعد زوال الحكم العثماني، أو انتهاء فترات الحكم الاستعماري أو الانتداب في العالم العربي. ورأت بعض الدول الالتزام بأقصى اليمين، في الوقت الذي رأت فيه دول أخرى في النظام اليساري أفضل السبل لإدارة شعوبها، فيما سُمي بالسير على خطوات المعسكر الاشتراكي. وتبلورت عن تلك التوجهات ممارسات في الفكر والسياسة أخذت نُسخا مما يُمارس في كلا المعسكرين، رغم أن معسكر اليمين كان متناقضا إلى حد كبير مع نفسه، إذ التزم بتعاليم الدين وأقام الدولة على أسس الشريعة، لكنه في ذات الوقت أقام علاقات دبلوماسية وطيدة مع الغرب وأميركا، ما زاد من التحالف لحماية النفط ونجح في توفير مستقبل أفضل لأبنائه، بينما لم ينجح أصحاب المعسكر الاشتراكي - الذي ناصب المعسكر الأول العداء - في توفير ذلك المستقبل، لأنهم بنوا الحكم على شعارات وأفكار «غريبة» لم تكن تناسب الواقع، في الوقت الذي ركزوا فيه على شراء الأسلحة وعسكرة المجتمع. ونتج عن ذلك «استواء» الجيش على ما عداه من مؤسسات المجتمع، وتمت محاربة كل فكر أو اتجاه يخالف عقيدة العسكر، بل والزج بالمخالفين في السجون لآماد طويلة ولربما حتى الموت. كما جرى «استعباد» المواطنين وتخويفهم دوما بحضور النظام في أي مكان، فصار أن خاف المواطن من زوجته أو أحد أبنائه - والعكس - من أن يكون أحدهم يعمل لحساب النظام، أو ضد النظام، الذي قام على شعارات وعقائد خدع بها المواطنين، ولا أدل على ذلك من «كُفر» العراقيين - ولنقل أغلبهم بشعارات حزب البعث - بعد أن ورّط العراقيين في حربين خاسرتين، وقضى على الاقتصاد العراقي، وشرّد الآلاف من أبنائه في المنافي، كما أعدم كل من يرفع صوته بنغمة تخالف أغاني النظام ورقصاته، وهدم البنى التحتية رغم أن العراق من أغنى الدول المطلة على الخليج. وحصل ذات الشيء في البلدان التي نهجت ذات النهج، إذ بعد تفكك الاتحاد السوفياتي انشطرت تلك البلدان وعاث فيها الفساد الإداري والاجتماعي، وتخلفت عن ركب دول المعسكر الآخر، التي كانت تنعتها بالتخلف والتبعية للاستعمار، ودخل بعضها في حرب أهلية، ولم تفدها كل الشعارات السابقة. وهذه حالة تحتاج إلى دراسة متأنية!.
ولقد تأثر جيل من الشباب العربي، ومنه الخليجي، بتلك «الهوجة» البعثية، وصرنا نقرأ - لسنوات قبل سقوط نظام «صدام» - مقالات يردد أصحابها «اللوغو» الخاص بحزب البعث، ولكن بعد سقوط النظام - الذي كان هشا لدرجة «الكورن فليكس»، لعلكم تذكرون سقوط ميدان الفردوس، وحصون الحكام الآخرين من دعاة «الثورية»، وبعد الثورات العربية، والتحولات في الجوار الجغرافي، بدأ هؤلاء الكتاب يمارسون عادة «العبودية الطوعية» منحازين للنظام، متخوفين من رفع أصواتهم بكلمة الحق، حتى لو كان بائنا، لأنهم «استلذوا» «العبودية» وطوقوا أنفسهم بهالات من الخوف، بل والتناقض في مواقفهم، بحيث انقلب «اليساري» إلى يميني، والشيوعي اللينيني إلى متحالف مع قوى إسلامية، وبذلك عمَّت الفوضى «دكاكين» السياسية وردهات الصحافة، وصار «المناضل» الذي «يلعن» الإمبريالية و«يسب» الرئيس الأميركي صباحا، نجده يمتدح رموز الامبريالية ليلا!؟ وصار الذي عاش حياته مولعا بـ«جيفارا» ومأخوذا بـ«كاسترو» يشيد في مقابلاته ومقالاته بالخلافة الإسلامية، والجماعات التي تسعى لإقامتها، بل ونراه قد مزّق كتب «لينين» و«ماوتسي تونغ» وبدأ يقرأ كتب «سيد قطب».
هذه «العبودية الطوعية» لم يفرضها نظام معين، ولم يأمر بها حاكم، بل اختلقها بعض المثقفين العرب حولهم، دونما اعتبار لتاريخهم أو مواقفهم السابقة المتناقضة مع مواقفهم الحالية!. وهذه الحالة تؤسس لشخصية انهزامية مشوشة، «لا تسقط من عيون الناس» فحسب، بل إنها تساهم في نشر الفوضى الحالية والنكوص في الفكر العربي، وفي الممارسة السياسية والإعلامية. إنها حالة «شيزوفرانيا» بين واقع عادي يمكن لأي إنسان أن يتعايش معه، مهما كان ظلمه، وواقع افتراضي يستلذ صاحبه «العبودية» ويحاول تعميمَها على الآخرين بكونها مفروضة - قيميا وسياسيا - وهي بعيدة عن ذلك.
فكيف لنا أن نعلم أولادنا حرية الفكر، وكبار مثقفينا يعيشون داخل تلك الدائرة الضيقة المسماة «العبودية الطوعية»؟