جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT
20

بلاد الشام... ضحية التاريخ أم الجغرافيا؟

استمع إلى المقالة

قال محدّثي «هل تعلم أنَّ بلاد الشام ضحية أقدار التاريخ والجغرافيا؟».

وأكمل كلامه قائلاً: «إن بلاد الشام تؤثر تأثيراً عميقاً في مجريات ومسارات تاريخ الشرق الأوسط. فالشام خزان استراتيجي للحضارة والثقافة، لا شك في ذلك، فاض على المحيط القريب والبعيد، وتنظر إليه القوى المناوئة على أنه الأرض الخصبة التي تمثل جوهر مطامع الإمبراطوريات. وقد تداعت إليه عبر التاريخ آلاف الغزوات، وتغير اجتماعياً وثقافياً وحضارياً مرة تلو المرة. ومن هذه الأرض أدركنا أن بلاد الشام محكومة بالانقضاض عليها في مراحل تاريخية متواصلة. وإذا نظرنا بعمق إلى التاريخ، فسنكتشف أن الحضارة الممتدة المستمرة على هذه الأرض شكلت جوهر الأخطار الكبرى والأديان السماوية».

هذا على مستوى التاريخ الممتد، أما على صعيد الجغرافيا، فإن بلاد الشام تمثل الحد الفاصل بين قلب العرب والقوى غير العربية المتاخمة؛ ولذا فهي بوابة أولى لدخول المنطقة العربية من قبل المغامرين والمستكشفين والغزاة. وقد شكل ذلك تهديداً وجودياً لشعوب الشام، وأدى إلى تغيير بنيتها الثقافية والاجتماعية باستمرار. ومن ثم فإن بلاد الشام قد تدهشك، لأنها تمتلئ بمكونات مختلفة طوال الوقت، مكونات تتصادم وتتصارع، وتتسبب في استدعاء الآخر غير الشامي نتيجة الانهيارات التي تخلفها الصراعات فيما بينها.

قاطعته ولكنَّ هذا نهر التاريخ وذاك محيط الجغرافيا، فما الذي يجري الآن حقاً؟ ما يحدث الآن أشبه بما عايشناه من قبل، وكأن الدوائر تدور كما هي، وكأن الأحداث تكرر نفسها.

فالشاهد أن محنة الجغرافيا تجلّت في بلاد الشام في بداية القرن الحادي والعشرين، حين وجدت نفسها تجاور غزواً أميركياً وغربياً لبلاد الرافدين الشقيقة، والشريكة في العمق الاستراتيجي لها. ولا شك أن شرارة هذه الغزوة تطايرت إليها وتفاعلت معها إلى الدرجة التي جعلتها تنخرط في مأساة الغزو من دون تخطيط أو وعي، وأحياناً تداخلت عبر خروج عناصر منها إلى ساحة المعركة في بغداد، وهو ما ارتد إليها فيما بعد. ولا شك أن حواف هذه البلاد شهدت تغييرات كبرى، فلبنان، منذ أكثر من قرن، يعاني انتداباً أو حرباً أهلية أو غزواً إسرائيلياً متوالياً. وفي لبنان، تمثل الجغرافيا قدراً قاسياً، فهو يقع عند مفترق الطرق بين المتنافسين والمتصارعين والمتحاربين، ولا شك أن تاريخه الثري والممتد جعل بلاد الشام عرضة لمطامع دائمة تحوم حول ميراثه الحضاري، تعبث به تارة، أو تحاول السيطرة عليه تارة أخرى.أما فلسطين والشام الجنوبية، فمحنتهما أعمق. فهذا الجزء من بلاد الشام يخضع لمحاولات الطمس والمحو والذوبان، نتيجة تصورات جاءت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما جُلب مستوطنون غربيون إلى الأراضي الفلسطينية، ونُزع سكانها الأصليون الذين وجدوا أنفسهم بلا أرض أو هوية. لا تزال هذه البقعة من الشام تغرق يوماً بعد آخر، من دون أن تجد نهاية للطريق. وإذا كانت بلاد الشام محاطة بالاتجاهات الأجنبية، وتشكل الحد الفاصل بين الآخر وقلب المنطقة العربية، فإن وجود إسرائيل في هذا القلب أضاف حداً ملتهباً آخر، في سوريا ولبنان وفلسطين. لذا، فإنَّ هذه الجغرافيا يخشى عليها أيضاً من الوجود الإسرائيلي، الذي يحظى بامتداد غربي شامل وعميق، وهو امتداد قابل للاشتعال في أي وقت، كما يحدث الآن على امتداد خريطة الشرق الأوسط، وفي ظل الوجود الكثيف للقوات الغربية في محيط الشرق الأوسط براً وبحراً وجواً.

إن استهداف بلاد الشام بهذه الضراوة سوف تتطاير شراراته إلى المنطقة. ومن دون شك، فإن الخطر المباشر يأتي من إسرائيل، التي تخطط وتعلن أن لديها مشروعاً لتغيير الشرق الأوسط وإعادة رسم خرائطه الجديدة حسب أحلامها وأطماعها. وقد عبر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن ذلك أكثر من مرة، قائلاً إن يديه تطول الشرق الأوسط بالكامل، وإن لديه خريطة جديدة. والدليل على ذلك أنه يعتدي على سوريا أرضاً وشعباً، ويحتل جنوبها، ويدّعي أنها امتداد طبيعي لخريطته المزعومة.

أما على صعيد لبنان، فإن نتنياهو لم يخرج من جنوب لبنان حتى الآن، ولم يمتثل لقرار مجلس الأمن 1701، ولم يتوقف عن قصف لبنان وخرق وقف إطلاق النار. وها هو يعود إلى غزة، ليخترق وقف إطلاق النار والهدنة التي بدأت يوم 19 يناير (كانون الثاني) الماضي.

أخيراً، أقول إن بلاد الشام هي عصب التاريخ وعنوان الجغرافيا؛ ولذا فإن حمايتها من المطامح والأطماع واجبة وضرورية للحفاظ على الأمن القومي العربي.