جمال زقوت
TT

هل تسعى إسرائيل لإنهاء دور الرئيس عباس؟

انفجرت الأسبوع الماضي حملة إسرائيلية شرسة وعدوانية، وقف خلفها أيضاً حلفاء حكومة الاحتلال واللوبيات الصهيونية في العالم بأسره ضد تصريحات الرئيس محمود عباس (أبو مازن) عن جزء يسير من معاناة الشعب الفلسطيني. إن هذه التصريحات وردود الفعل المبالغ بها على المشهد الإسرائيلي الصهيوني والدولي، وارتداداتها على المشهد الفلسطيني تشير إلى القضايا الجوهرية التالية:
أولى القضايا أن إسرائيل المحتلة لفلسطين تخوض ليس فقط معركة كي وعي الحاضر ومحاولات كسر إرادة المستقبل الفلسطيني، بل هي تعتقد ومن خلال حجم التنازلات التي قدمت لها، بما في ذلك المبالغة في انتقاء مفردات الصراع في إطار سياسة استرضاء العدو، لعله يتكرم بمجرد العودة لطاولة المفاوضات، في وقت أنه ليس في جعبتها، أي إسرائيل، أكثر مما جلبته المفاوضات حتى الآن من كونها غطاء لنهب المزيد من الأرض، وتضليل العالم بأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي محشور في بعض التفاصيل الثانوية، ولم يعد قضية إنكار لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره أو الاستيلاء على أرضه واغتصاب حقوقه ومصادرة حاضره ومستقبله، وهي بهذا تخوض حرباً على الذاكرة الفلسطينية والكونية، ليس فقط لما تمثله النكبة من جريمة العصر، بل وما تمثله الجرائم التي رافقتها وتلتها وتستمر حتى اليوم لإبادة هذه الذاكرة وما تشكله من رافعة للوعي والصمود في معركة البقاء.
لعل انفجار «ثائرة» حكومة الاستيطان والعنصرية جذرها المفاجأة بأن ما اعتقدته من كي الوعي الفلسطيني، ليس سوى مجرد وهم، وأن حدود لعبة مسرح الدمى، التي تمارسها في العلاقة مع المتصارعين على كسب ودها، لا يمكن لكائن من كان أن يتجاوزها.
أما المسألة أو القضية الثانية، فكما يبدو أن إسرائيل لم تعد تكتفي بأن تتم إدارة الحالة الفلسطينية، بتقديم عطاءات التسهيلات لطرفي الانقسام مقابل بقاء الوضع الراهن لحماية أمنها وأمن مستوطنيها، بل يبدو أنها تستعجل الانتقال للخطوة التالية لمزيد من السيطرة المباشرة على مقود القيادة في الحالة الفلسطينية، وهذه المرة بالتخلص من الرئيس أبو مازن نفسه، رغم ما قدمه من تنازلات، وما يلتزم به إزاء ما يسميه هو التنسيق الأمني المقدس، وضمان انتقال سلطته في المستقبل بما لا يتصادم مع رؤية إسرائيل للحالة الفلسطينية، وهي تسعى ليل نهار لتعميق هشاشتها وتفكيك حاضنتها الشعبية وتركها فريسة للانقسام، ووحيدة يسهل الاستفراد بها، بتعزيز عزلتها عن قضايا الناس والضمير الجمعي.
وثالثاً، فقد جاءت تصريحات أبو مازن لتحدث هذه الجلبة، في وقت أن إسرائيل ذاتها لم تكن سابقاً تتوقف كثيراً عند الحديث عن مجازرها، بل لم تكن تكترث لكل الإدانات الدولية طالما أنها لا تقترن بخطوات عملية تضع حداً لهذه المجازر، والتي كان آخرها مجزرة جباليا التي اعترفت بها من دون أن يترتب على ذلك شيء، سوى تسويق ما تدعيه عن «طهارة سلاحها» رغم ما يرتكبه جيشها من جرائم، ولم تكن جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة أمام أعين العالم، والأكثر من دامغة سوى أحد أمثلتها. ربما هذه المرة لأن هذه التصريحات خرجت على طوع عملية الترويض الطويلة، ولكن الأهم أنها مست البقرة المقدسة التي تواصل فيها ابتزاز أوروبا فقط لأن هذه التصريحات جرت في ألمانيا المعاصرة وريثة جريمة الهولوكوست التي ارتكبها الوحش النازي الألماني.
غني عن القول بأن هذه الحملة الصهيونية، وحاضنتها مجتمع النفاق الدولي المترامي الأطراف، هي جزء من حربها على الرأي العام الدولي الذي تتعاظم مناصرته للعدالة في فلسطين، ويستمر في تصنيف سياسات حكومة الاحتلال في دائرة العنصرية - الأبارتايد، بما في ذلك تراجع ألمانيا ذاتها تحت ضغط الرأي العام عن اعتبار حركة المقاطعة كحركة تندرج في إطار اللاسامية، والتي تخوض إسرائيل فيها حرباً ضروساً ضد أي محاولة لنقد أي من سياساتها، وليس فقط احتلالها وعنصريتها، بأنها جزء من معاداة السامية.
ورابعاً على الصعيد الفلسطيني، وبدون التقليل من أهمية التذكير بالمجازر الإسرائيلية، فإن الجلبة الداخلية وبغض النظر عن حجمها وقوتها ومداها وتوظيفاتها، والتوضيحات والتراجعات التي تبعتها، فهي للأسف تظهر أن طموح الفلسطيني من قيادته لم يعد يتجاوز أن تتذكر هذه القيادة معاناته والمجازر التي تعرض لها، في وقت أن وظيفة هذه القيادة وأي قيادة هي مقاومة العدوان، ورفع الظلم والمعاناة عنه، وفي مقدمة ذلك الخلاص من الجريمة الأكبر المتواصلة وهي الاحتلال، بما يتطلبه هذا الأمر من فعل جدي لاستدعاء واستنهاض كل عناصر القوة الذاتية، الغائبة عن المشهد بفعل فاعل معلوم يسير في فلك تفكيك عناصر هذه القوة التي تديرها إسرائيل، وإذا كان المهيمنون على المشهد يدرون، فهذه مصيبة، وهم يدرون، وإن كانوا لا يدرون فالمصيبة أكبر.
وخامساً، فإن إبقاء القضية والرواية الفلسطينية، بما فيها ما تعرض له الشعب الفلسطيني من مجازر، حيتين، يتطلب بلورة استراتيجية عمل بقيادة وطنية موحدة في إطار المؤسسات الوطنية الجامعة، وليس مجرد تصريح إعلامي، نتراجع عنه هناك، ونسعى لتوظيفه هنا. خطوات صون الحقوق والرواية على طريق تعزيز الصمود في معركة الحرية هي شيء آخر، وأظنها معلومة جيدة للقيادة المهيمنة على المشهد، والتي لشديد الأسف اختارت، حتى اللحظة، الانفضاض عن حواضنها السياسية والاجتماعية والشعبية، وهي ترفض المراجعة واستخلاص عوامل الفشل والضعف والعزلة الشعبية، رغم أنها تدرك تماماً من الذي يمكنه ويستطيع أن يحميها من الاستفراد الصهيوني بها، وهو يحضر للإطاحة بها كمكون من استراتيجيته الثابتة لاستكمال مخططات الإطاحة بقضية شعبنا.
وأخيراً، فالطريق إلى الصمود السياسي وصد هذه الحملة البشعة وغيرها، يتطلب إنهاء الانقسام واستعادة بناء وحدة وطنية جادة في إطار المؤسسات الجامعة ممثلة بمنظمة التحرير الائتلافية وحكومة وحدة وطنية تستعيد وترسخ الديمقراطية والحكم الرشيد والتوزيع العادل للموارد ولأعباء مواجهة الاحتلال، وما يشكله كل ذلك من رافعة للنهوض الوطني والصمود الميداني والتكامل بينهما.