مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

ماذا سمع بايدن في قمة جدة؟

المفارقة في هذا العالم الغريب أنه أكثر اتصالاً وأقل رضا وتوافقاً، في كل يوم تفتح لك الحياة السياسية نوافذ صغيرة لترى منها حقائق كبيرة، والخط الفاصل فيها يختلف باختلاف الأنظمة والظروف والأزمنة، فثنائية الخاص والعام والصديق والعدو لا تتحكم في السياسة فحسب، بل تتحكم في أهداف الأنشطة السياسية الأخرى على شكل علاقة بين مفهومين متضادين، قد يتغير خلال مسيرة التاريخ، ففي الأيام الماضية تصدرت صور كبار مستشاري البيت الأبيض الشاشات وصفحات الصحف عندما كان الرئيس بايدن في زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط لإعادة دور الولايات المتحدة في منطقة ذات أهمية استراتيجية في العالم، في ظل تراجع نفوذ واشنطن، ورحّب الرئيس بايدن بإعلان عدد من الشركاء من دول مجلس التعاون لدول الخليج؛ فأصبح الأمر أكثر وضوحاً في أعقاب الحرب الروسية - الأوكرانية.
ومهما تكن أهمية العمل السياسي، فهو يعدّ فعالية لخدمة غاية بذاتها. انتهت الزيارة الرسمية ببيان خليجي - أميركي مشترك، وهو «الالتزام بتطوير التعاون المشترك لدعم التعافي الاقتصادي الدولي»، حيث شملت الرحلة ثلاث محطات رئيسية، إسرائيل والضفة الغربية والمملكة العربية السعودية، مؤكدة على الاستقرار الإقليمي وعلى الاستقرار الاقتصادي، وعلى أزمة الغذاء العالمية المحتملة. في هذا الجانب نقول بشكل أدق، إن هدفه السياسي الخاص بكل وضوح المصلحة الاقتصادية لأميركا، فليس هناك شك في أن جميع الأنظار ستتجه في الغالب إلى لقائه بالقيادة السعودية، حيث يسعى إلى إعادة تعزيز العلاقة الاستراتيجية وتقويتها وترسيخها مع المملكة بعد أن تباينت مواقفه تجاه الشرق الأوسط، في بداية توليه منصب الرئاسة ما بين الابتعاد عنها واكتشاف الخطأ في هذا التوجه ليعود معلناً أنه جاء لإصلاح أخطاء الماضي.
بعد ما رشح عنه من تصريحات لم تكن موفقة من سياسي عريق تجاه السعودية الدولة التي يعرف الجميع أهميتها ودورها العالمي الإيجابي في شتى المجالات، نتج من كل ما تقدم أن ما نشاهده يبدو بمظهرين لا تزال الصحف وسجلات التاريخ تحتفظ بهما كملفات قديمة أخفقت الإدارات الأميركية في حلها، فمهما كان سير الأحداث والظروف الاستثنائية التي تضفي بريقاً ورونقاً، وصيغة موثوقة تساعد الإدارة على تحمل مسؤولية ما حدث، بهذا المعنى يجهد السياسي نفسه عندما يكيل بمكيالين للدول الأخرى ويتجاهل مسؤولية الماضي ويسعى إلى الوسائل المتاحة وتاريخ ملطخ بدماء الأبرياء والعنف والتدمير بزعم أسلحة الدمار الشامل وتسليمها للنظام الإيراني، ولكن عدالة السماء شاءت أن يعترف أولئك القادة الذين شاركوا في غزو العراق وتدميره عام 2003 بأنهم قاموا بعملية الغزو، بناءً على معلومات خادعة ومغلوطة؛ اعترف كولن باول، وزير خارجية جورج دبليو بوش، بأنه وقف أمام مجلس الأمن ليتحدث عن امتلاك أدلة على وجود أسلحة دمار شامل بالعراق، وهو يعرف أنه لم يكن يقول الحقيقة والإدارة تعرف أنه لم يقل الحقيقة.
إذن، يبدو من العبث التساؤل عن حادث يتكرر في كل محفل وهو مقتل الصحافي خاشقجي مواطن من شعب عوقب قاتلوه بأحكام شرعية، ولكن هناك أفكاراً غامضة لا تلائم الواقع، تحصر كل المهام بيدها وتقوم بتنفيذ القوانين والأنظمة على العالم، بالمقابل هناك دولة انتهكت سيادتها وهُجّر شعبها ووضع على أرضها سجن أبو غريب الذي انتهكت فيه الكرامة والإنسانية ونكّل بالمساجين، وفي حادثة أخرى مأساوية تلك الأرواح المتساقطة في سماء أفغانستان من الطائرات العسكرية الأميركية... لا شك أن العقبات الرئيسية التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وتفتيت بنيته التحتية بمعول الهدم لا البناء؛ وذلك بسبب خاصية المشروع السياسي نفسه، هناك دائماً رجال لا يتراجعون إلا بعد فوات الأوان، كاعتراف توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وشريك جورج بوش بالخداع، وجورج بوش نفسه اعترف، ولم يتحملا مسؤولية الحرب سوى تذكيرهما بما اقترفا بحق شعب ودولة، وذلك أفقد العالم الثقة بغايات أميركا وأهدافها، ومن ضمن هذه الأهداف ازدهار الشركات النفطية الأميركية والشركات الإيرانية التي سلبت مقدرات العراق والأرقام والإحصاءات والوثائق والحقائق والمعطيات الموجودة على أرض الواقع تبرهن على ذلك بشكل كبير.
قال مارتن لوثر كينغ الابن ذات مرة في خطاب له «المحك الأساسي للإنسان ليس موقفه في أوقات الراحة والرفاهية، ولكن موقفه في أوقات التحدي والخلاف، عندما تفاجئهم الشدائد يغوصون في أعماق أنفسهم ويخرجون للعالم مزيداً من طبائعهم الأسمى»، بعدما قامت الحرب الروسية في أوكرانيا والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا، وهي منتج عملاق للنفط والغاز، أدتا إلى حدوث أزمة في سوق الطاقة العالمية، وارتفاع أسعار النفط، ومن ثم تحركت إدارة بايدن باتجاه منتجي النفط الكبار في العالم، وعلى رأسهم السعودية، مطالبة إياهم بزيادة الإنتاج لتعويض أي نقص ناجم عن تعثر الصادرات الروسية.
فعندما تنهار الأشياء من حولهم يستخدمون حجرات عثراتهم كمعابر إلى حياة أكثر مرونة، ويستجيبون لمن حولهم، وتستبدل بالنظارات الشمسية أخرى طبية لرؤية حقيقة الحياة بوضوح، فمن أشعل فتيل الحرب عليه أن يخمده، ولكن في الحياة السياسية لا توجد حياة مثالية، فعلى الجميع مواجهة التحديات من آن إلى آخر خطيرة كانت أم بسيطة، وما يميز قادة السعودية هدوؤهم في أوقات الأزمات وأنهم يمتلكون مقدرة متميزة أكثر حكمة وهي الصفة العظيمة التي تلهم الآخرين.