جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

أين ستأخذ السيدة ستورجن اسكوتلندا؟

على عكس القادة الانفصاليين الكتالونيين في إسبانيا، وما آلوا إليه من سوء مصير، نتيجة تسرعهم في الإعلان عن إجراء استفتاء حول الاستقلال، اختارت زعيمة الانفصاليين في اسكوتلندا السيدة نيكولا ستورجن طريقاً مختلفة، وآمنة قانونياً، تضمن تفاديها لعقوبات القانون من ناحية، وتعيد إليها ثقة أنصارها بالحزب القومي الاسكوتلندي من جهة أخرى. وبدلاً من تحدي الدستور والقانون ورئيس الحكومة البريطانية، بالدخول في متاهات قانونية وسياسية لا حدَّ لها، لجأت، بذكاء ودهاء، إلى القضاء بهدف الاستشارة. ووضعت، في مبادرة جريئة، على منصة قضاة المحكمة العليا الملف المتعلق بالسؤال حول أحقية إجراء استفتاء ثانٍ على الاستقلال.
الخطوة، كما تؤكد تقارير إعلامية، كانت مفاجأة ليس لرئيس الحكومة والمعارضة في لندن فقط، بل حتى لأعضاء وكوادر حزبها في اسكوتلندا. التقارير الإعلامية قالت إن السيدة ستورجن، أبقت أوراقها قريبة من صدرها، ولم تُعلم من أعضاء الحزب والوزارة إلا أشخاصاً قلائل لا يتجاوز عددهم أصابع يد واحدة. وهي بعد أن أبلغت البرلمان المحلي في أدنبرة بالخطة، التقت بالصحافيين أمام الباب الرئيس، وضحكت بسخرية قائلة لهم: «لا أحد منكم توقع ذلك».
في بيانها أمام نواب البرلمان المحلي، أوضحت السيدة ستورجن أنه في حالة رد المحكمة العليا بالرفض، فإن الانتخابات النيابية القادمة عام 2024 ستكون بمثابة استفتاء ثانٍ على الاستقلال. وأن الناخبين الاسكوتلنديين سيكونون على علم بأن تصويتهم لصالح مرشحين عن الحزب القومي الاسكوتلندي هو فعلياً تصويت على الاستفتاء. وفي حالة حصول الحزب على نسبة أصوات تتجاوز 50 في المائة من أصوات الناخبين الاسكوتلنديين، فإنها ستعتبر ذلك تفويضاً شعبياً بإجراء استفتاء ثانٍ. وسياسياً، فإن زعيمة الانفصاليين الاسكوتلنديين لن تخرج خاسرة في الحالتين. فهي، وهذه حقيقة، تعلم مُسبقاً أن المحكمة العليا لن تمنحها حكماً لصالح إجراء استفتاء آخر، كونه يتعارض ولوائح الدستور، وتنقصه موافقة واجبة وصريحة من رئيس الحكومة البريطانية. بعدها سوف تُعدّ الحزب للانتخابات ببرنامج انتخابي قائم على مسألة واحدة: الانفصال عن المملكة المتحدة، واستقلال اسكوتلندا. السيدة ستورجن، بمناورتها الأخيرة، اصطادت عدة عصافير بحجر واحد. أولاً: أكدت حقيقة أن كيد النساء عظيم. وثانياً: شككت، في الوقت نفسه، في الأقوال والأمثال التي تضرب عن النساء وعدم قدرتهن على الاحتفاظ بالأسرار. وثالثاً، أعادت الزخم إلى شعبيتها بين أنصارها، وأسكتت المتشددين في الحزب ممن يتهمونها بشدة الحذر. ورابعاً: فاجأت الحكومة البريطانية وأربكتها في آن معاً، في حسن اختيار توقيت الإعلان، والدهقنة التي صيغ بها. وخامساً وأخيراً، أنها سوف تقلب المعادلة السياسية بتحويل الانتخابات القادمة إلى استفتاء.
ردودُ الأفعال في لندن، من الأحزاب الثلاثة، اتفقت على رفض المبادرة، ورفض الانفصال، والتأكيد على أن مستقبل اسكوتلندا داخل الاتحاد البريطاني وليس خارجه. لكن قطار الانفصال الاسكوتلندي كان قد غادر المحطة منذ فترة ليست قصيرة، وفي طريقه إلى وجهته المقصودة. غير ملتفت لما في الطريق من عوائق وعراقيل محتملة، والشعار لا بد من اسكوتلندا مستقلة وإن طال السفر. ومن المرجح أن الرحلة قد تطول أكثر من المتوقع، إلا أن القطار لن يحيد بركابه عن الطريق إلى الهدف، ما لم يُدفع قسراً خارج القضبان. ويقيناً أن من يستقلونه يتوقون إلى اللحظة التي يرددون فيها جملة المرحوم الكاتب والشاعر غازي القصيبي: «باي باي لندن». فإلى أين ستأخذ السيدة ستورجن الاسكوتلنديين؟
والحقيقة التي لا مهرب من مواجهتها هي أن الرحلة الاسكوتلندية نحو التخلص من قيود الاتحاد البريطاني قد لا يكتب لها النجاح. والسبب أن سجل القوميين في الحكم، حتى الآن، ليس مشجعاً لنيل ثقة أغلبية الناخبين الاسكوتلنديين، وانعكس ذلك بوضوح في عديد من القطاعات خاصة التعليم والصحة.
يقول مراقبون بريطانيون إن توقيت مبادرة السيدة ستورجن كان بضغوط داخلية اسكوتلندية أهمها التذمر داخل دوائر الحزب من بطء تحرك زعيمتهم نحو الهدف. وهناك أيضاً التخوف من تزايد شعبية حزب العمال في الآونة الأخيرة، بين الناخبين الاسكوتلنديين، تحت قيادة زعيمه الجديد أنس سروار، الذي، وفقاً للتقارير، حظي، مؤخراً، بشعبية تفوق شعبية السيدة ستورجن، الأمر الذي لم يحدث من عشر سنوات. كما ارتفعت شعبية حزب العمال في استبيانات الرأي العام من 14 في المائة إلى 25 في المائة. ويرى العماليون أن أي محاولة تستهدف التخلص من المحافظين لن تنجح إلا بقيادتهم. إلا أن القوميين الاسكوتلنديين، من جانبهم، يحاولون إقناع الناخبين أنفسهم بأن أي محاولة للتخلص من الاتحاد البريطاني وظهور اسكوتلندا مستقلة لن تكون إلا تحت رايتهم.