قبل أكثر من ثلاث سنوات، تعامل التحالف الدولي مع «داعش» الذي نصّب نفسه «دولة» مزعومة في سوريا والعراق بعد هزيمته الأخيرة، واستولى على آخر جيب متبقٍ للتنظيم الإرهابي في الباغوز في شرق سوريا. وأدى الإنجاز العسكري الذي تحقق، بالتنسيق الوثيق مع الشركاء المحليين، «قوات سوريا الديمقراطية»، إلى إنهاء حملة عسكرية دامت قرابة خمس سنوات بتكلفة كبيرة لجميع المعنيين، وتلاشت مزاعم «داعش» الكاذبة عن الشرعية والمصداقية، وأتيحت لسوريا والعراق فرصة للتطلع إلى مستقبل أفضل.
في الأشهر والسنوات التي أعقبت تلك المعركة الأخيرة، واصلت القوات في العراق وسوريا جهودها لاحتواء وهزيمة «داعش»، الذي يتجسد تهديده الآن في شكل هجمات إرهابية ومتمردة. وأثمر الكثير من هذه الجهود أيضاً في مقتل أبو بكر البغدادي، وخليفته أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، وفي شن عمليات هادفة في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وفبراير (شباط) 2022، على التوالي. وعلى الرغم من مواصلة التنظيم تلقي هجمات قاتلة، فإن المخاوف من عودة ظهوره المحتمل لم تتحقق، على الأقل حتى الآن.
اليوم، تكمن أفضل فرصة لعودة «داعش» إلى الظهور في ما تبقى من تجسده الإقليمي السابق. فبعد ثلاث سنوات من هزيمة «داعش» في الباغوز، لا يزال أكثر من 12 ألف مقاتل سابق و60 ألف امرأة وطفل قابعين في سجون مؤقتة ومعسكرات اعتقال قذرة وغير آمنة، في شرق سوريا. ويمثل هذا تحدياً أمنياً حاداً وآنياً، علاوة على أزمة إنسانية مقلقة. ولا يبدو أي من ذلك قريب الحل.
ما لا يقل عن 2000 من مقاتلي «داعش» المسجونين، البالغ عددهم 12 ألفاً، هم مواطنون غير سوريين أو عراقيين، و700 منهم على الأقل من غير البالغين. وكان هجوم «داعش» الدراماتيكي والواسع النطاق على سجن الصناعة (مدرسة سابقة بجدران أمنية وحواجز أمنية بدائية) في محافظة الحسكة، في يناير (كانون الثاني) 2022، بمثابة تحذير صارخ حول ضعف هذه المرافق الخاضعة لسيطرة ميليشيات غير حكومية، وإمكانية مهاجمتها. وشارك في الهجوم نفسه عدة مئات من مقاتلي «داعش»، وأسفرت المعركة التي استمرت أسبوعاً عن مقتل أكثر من 500 شخص.
كما كشفت التحقيقات اللاحقة أن «داعش» تسلل إلى «قوات سوريا الديمقراطية» في المنطقة لتسهيل العملية، وأن مسلحي «داعش» داخل السجن كانوا يتمتعون بسهولة في الوصول إلى الهواتف المحمولة للتخطيط للهجوم وتنسيقه. وفر عشرات، إن لم يكن ما يصل إلى 150 سجيناً في ذلك اليوم، بمن فيهم العديد من كبار قادة التنظيم. وحتى يومنا هذا، لم يجرِ تشكيل أي آلية قضائية لتوجيه الاتهام أو مقاضاة المعتقلين الأجانب المحتجزين في سوريا، ولم تبدِ بلدانهم الأصلية أي رغبة في إعادتهم إلى أوطانهم لمحاكمتهم.
ومن بين أكثر من 60 ألف امرأة وطفل في المخيمات، هناك ما لا يقل عن 13 ألفاً من مواطني أكثر من 60 دولة، غير سوريا أو العراق، و70 في المائة منهم على الأقل من الأطفال. ومنذ عام 2019 لقي أكثر من 700 شخص حتفهم بسبب عدم علاج مرض أو سوء تغذية أو هجمات من الداخل، نصفهم من الأطفال. في الأشهر الأخيرة، تسلل المقاتلون الذكور إلى أكبر المعسكرات، المعروفة باسم «الهول»، وشن مسلحون ونساء هجمات مميتة باستخدام قذائف صاروخية ومدافع رشاشة وقنابل يدوية.
وأصدرت شخصيات قيادية في «داعش» دعوات علنية لمزيد من الهجمات داخل «الهول» في عام 2022.
وعلى الرغم من أن حقوق الأطفال وحمايتهم مطلب واضح بموجب القانون الدولي، عندما واجهوا تلك هذه الأزمة الإنسانية الحادة، فقد قاومت غالبية الحكومات الغربية الدعوات لإعادة النساء والقُصّر إلى الوطن، متذرعة بمخاوف أمنية وقيود سياسية وقضائية. وعندما واجهت دعوات عامة للقيام بعمل أفضل، لا سيما من الحكومة الأميركية، قامت بعض الحكومات بتجريد النساء من جنسيتهن، وأعاد البعض الآخر أعداداً صغيرة من الأطفال إلى الوطن، وفصلتهم عن أمهاتهم.
ومنذ عام 2017، استحوذت كازاخستان وكوسوفو وروسيا وأوزبكستان على 85 في المائة من إجمالي العائدين من بلدان ثالثة، بينما أعادت دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى النرويج وكندا وأستراليا والولايات المتحدة، ما مجموعه 145 شخصاً بالغاً.
وبحسب المعدل الحالي للإعادة إلى الوطن، سيستغرق الأمر 30 عاماً على الأقل لإعادة جميع الأطفال إلى الوطن، وفي ذلك الوقت سيكونون في منتصف العمر، وهو وضع لا يمكن تحمله، ويتطلب اهتماماً عاجلاً واستجابة سياسية جادة.
ويواجه تحدي عودة النساء والأطفال السوريين والعراقيين، وهم الغالبية العظمى من المحتجزين في المخيمات، عدداً من العقبات الكبيرة أيضاً. بالنسبة إلى السوريين الذين ينتمون إلى مناطق يسيطر عليها نظام الأسد الآن، فإن «قوات سوريا الديمقراطية» والتحالف الدولي غير قادرين، قانوناً، على تسهيل عودتهم، نظراً لاحتمال تعرضهم لمحاكمة فورية وغير متوقعة وتعذيب وإعدام خارج نطاق القضاء.
وبالنسبة للسوريين القادمين من أماكن أخرى، تظل العودة مسألة مفاوضات حساسة وبطيئة وغير متوقعة مع السلطات والقبائل المحلية.
وبالنسبة للعراقيين، فيما تظل بغداد منفتحة وداعمة إلى حد كبير للعودة، تظل المجتمعات المحلية مقاومة بشدة. وحتى الآن، تمكن أقل من 6 في المائة من العائلات العراقية الموجودة حالياً في «الهول» من العودة إلى العراق.
إن ترك معتقلي «داعش» وأفراد عائلاتهم في سجون مؤقتة ومعسكرات قذرة لا ينفع بشيء لتعزيز أمننا الجماعي، ولا يضمن العدالة لجرائم «داعش» العديدة. فعندما احتفظ الغرب بأعداد كبيرة من المتطرفين رهن الاعتقال لفترة طويلة، في معسكر «بوكا» في العراق، واصل بذلك المساهمة في توسع «داعش» غير المسبوق ليصل إلى تهديد عالمي في عام 2014.
إن إيجاد حل دائم ومنصف لهذه القضية بات الآن أمراً عاجلاً وملحاً أكثر من أي وقت مضى.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:7 دقيقه
TT
أسرى «داعش» وعائلاتهم قنبلة موقوتة يجب تفكيكها
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة