د. ياسر عبد العزيز
TT

الأزمة الأوكرانية... واحتكار المعلومات

على مدى شهر كامل مضى، باءت الكثير من محاولاتي للولوج إلى موقع «سبوتنيك» الإخباري الروسي بالفشل، بينما لم يكن بوسعي الاطلاع على موقع «روسيا اليوم» إلا بعدما تظهر لي عبارة تقول: «موقعنا يتعرض لهجوم كبير... نرجو الانتظار لنحوِّلك إلى الصفحة المطلوبة».
صحيح أن معالجة الأزمة الأوكرانية في موقع «روسيا اليوم»، منذ شنت موسكو حربها على أوكرانيا، تُقدم إلى الجمهور تحت عنوان «العملية العسكرية الروسية لحماية دونباس»، وهو أمر يشير إلى درجة من درجات الانحياز، الذي يستخدم وصفاً غير دقيق، بغرض مساندة موقف موسكو في الحرب، لكن محاولات إسكات الصوت الروسي في هذه الأزمة تبدو واضحة للعيان، ولا تحتاج جهداً كبيراً لإثباتها.
وقبل يومين أعلن مجلس «الدوما» الروسي (البرلمان) أن محرك البحث «غوغل» حذف قناة المجلس على موقع الفيديوهات «يوتيوب»، الذي يحفل بقدر كبير من المواد التي تعالج الحرب وتطوراتها وتداعياتها.
وفي محاولته لشجب هذا الإجراء، قال رئيس المجلس فياتشيسلاف فولودين، إن «هذا دليل آخر على انتهاكات واشنطن لحقوق المواطنين وحرياتهم... السلطات الأميركية تجبر شركات تكنولوجيا المعلومات الأميركية التي تمتلك شبكات اجتماعية على شن حرب إعلامية ضد بلادنا... إنها محاولة لاحتكار المعلومات».
منذ اندلعت تلك الأزمة الطاحنة التي يقاسي العالم آثارها العميقة والمؤلمة، لم تتوقف المحاولات من أطرافها عن استخدام وسائل الإعلام لتحقيق أهدافها التكتيكية والاستراتيجية، وفي جميع الأحوال لا يمكن ادعاء أن أحد هذه الأطراف تبنى سياسة رشيدة خلال مواكبته الإعلامية للأزمة، أو وفر وسيلة مشروعة، أو غير مشروعة، لبث دعايته وإسكات صوت الطرف الآخر.
وإضافة إلى ذلك، فقد تم إغراق المجال الإعلامي المواكب للأزمة والشارح لتطوراتها بفيض من المعلومات المُضللة، التي ساهمت في حرف اتجاهات الجمهور، وتشتيت أفكاره، وتحجيم قدرته على تكوين رؤية واضحة أو اتخاذ قرار صائب.
ويمكن لأي مُتابع حصيف أن يستخلص جوانب الاستراتيجية التي اتبعها كلا الجانبين حيال المعالجة الإعلامية للأزمة؛ فعلى الجانب الروسي سيظهر أن موسكو، التي تدرك جيداً أنها تعاني من خلل رهيب في موازين القوى الإعلامية بينها وبين الغرب، لجأت إلى الحل الأسهل والأكثر اتساقاً مع قدراتها وطبيعة نظامها السياسي. وتماشياً مع هذا الحل، ستستخدم موسكو وسائل الإعلام الوطنية أداة قتال كاملة الأوصاف، عبر اعتماد «تكنيكات» الدعاية المباشرة، وتكريس الصوت الواحد، وحجب المواقع والوسائل والأصوات الناقدة والمناوئة، وتكريس جهود وموارد كبيرة لشن هجمات إعاقة وتضليل ضد الوسائط الغربية، ثم الشكوى وتسليط الضوء على الانتهاكات الإعلامية الغربية التي تستهدف تلطيخ سمعتها وإضعاف موقفها على الصعيدين المحلي والدولي.
لكن الغرب الذي يخوض غمار تلك الأزمة متسلحاً بأدوات إعلامية واتصالية فائقة القدرة والتأثير، سيسخّر كل طاقته لهزيمة روسيا في الإعلام، وبينما هو يمضي في استراتيجيته تلك، سيطوي عالم وسائط «التواصل الاجتماعي» الرائجة تحت أجنحته، وسيوفر للوسائط «التقليدية» الفرص اللازمة لشن معركتها الدائمة ضد «الأنموذج الشمولي» للخصم الروسي، وسيستخدم أدواته القانونية والتنظيمية من أجل «تأميم المجال الاتصالي الدولي» لصالح روايته وقضيته في تلك الحرب وما وراءها من منازلة استراتيجية ضد روسيا البوتينية.
وبينما يمضي الروس في تفعيل استراتيجيتهم السهلة والبدائية ومحدودة الموارد، ويخسرون في مجال الصورة الذهنية والسمعة الدولية باطراد، يحقق الغرب انتصاراته المبهرة بسبب الخلل في موازين القوى الاتصالية بين الجانبين.
لكن بعض المراكز الحية في الجسم الغربي بدأت تستشعر خطورة هذا الخلل الكبير، وربما راحت تحسب عواقبه في حال وقع الصدام بين بعض دول المعسكر الغربي ذاته وبين الجانب الأميركي، الذي أظهر قوة وهيمنة استطاعتا تكسيح الخصم الروسي، ودقتا أجراس الإنذار في عواصم أوروبية في الوقت ذاته.
وقبل أسبوعين، توصلت دول الاتحاد الأوروبي إلى مسودة اتفاق جديد، سيدخل حيز التنفيذ مطلع العام المقبل، وهو الاتفاق الذي وصفه الجانب الفرنسي بأنه «أهم تنظيم في العقود الأخيرة للأسواق الرقمية»، والهدف منه «وضع حد لاستغلال الشركات الرقمية الأميركية العملاقة موقعها المهيمن» على الصعيد العالمي.
لقد أدرك الأوروبيون أن تلك الشركات العملاقة تستغل وضعها الاحتكاري ونفاذها الفائق في أسواق الاتصال من أجل تحقيق أهداف محددة من خلال ممارسات تضر بقوانين المنافسة.
ستكون لتلك الحرب ارتدادات عالمية وتنظيمية فائقة الأهمية، وفي رأس قائمة تلك الارتدادات ما سيظهر من محاولات غربية في الأساس لتحجيم هذه الآلة الرقمية الجبارة، التي أثبتت الحرب الأوكرانية أنها مرهونة بالكامل لتحقيق أهداف الولايات المتحدة، وإنفاذ رؤاها في الأزمات والتفاعلات الدولية.