داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

أمرٌ لا يهمّ الولايات المتحدة... دعهم يموتون

مع أن مسؤولاً صحياً عراقياً حذر في سبتمبر (أيلول) الماضي من أن التلوث الإشعاعي باليورانيوم يبقى فعالاً لمئات آلاف السنين، فإن محافظة البصرة (جنوب العراق) شهدت مؤخراً مؤتمراً محلياً للإعلان عن خلو المحافظة من التلوث الإشعاعي، بعدما كانت البصرة تتصدر المحافظات في شدة التلوث وكثرة الأضرار والأمراض والتشوهات الخَلقية. ولم تؤيد منظمة الصحة العالمية هذا الإعلان المفتقر إلى أي شهادات دولية تؤيد صحته، فكل الذي حدث أنه تم نقل كميات كبيرة من المواد الملوثة إشعاعياً، كأنها نفايات عادية، داخل حاويات، وتخزينها تحت الأرض في منطقة صحراوية تبعد نحو 100 كيلومتر عن أقرب منطقة سكنية، وهي مسافة غير آمنة.
وأفادت دراسة علمية استغرقت سبع سنوات، كما ذكرت صحيفة «إندبندنت» البريطانية مؤخراً، بأن القذائف والصواريخ المعززة باليورانيوم المنضب التي أطلقتها القوات الأميركية والبريطانية خلال حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت) حصدت أرواح آلاف العراقيين بالأمراض السرطانية. وبلغ عدد هذه القذائف والصواريخ 4 آلاف قذيفة يورانيوم منضب ذات حجم 120 مليمتراً تم إطلاقها من دبابات تشالنجر وإبرامز على دبابات وناقلات جنود ومعدات وتحصينات عسكرية عراقية. ويصل وزن حشوة اليورانيوم المنضب في كل قذيفة إلى نحو خمسة كيلوغرامات، ما عدا تلك المقذوفات من الطائرات الحربية.
وبالأرقام، قالت الدراسة إن القوات الأميركية والبريطانية استخدمت من 320 إلى 800 طن متري من اليورانيوم المنضب. وكانت النتيجة المفجعة لهذا العدوان الوحشي ظهور آلاف التشوهات الخَلقية لدى الأطفال بعد عام 1991، بالإضافة إلى الأمراض السرطانية الناجمة عن التعرض المكشوف لمستويات مرتفعة من الإشعاع. وذكر تقرير الصحيفة البريطانية أن هذه المشكلة شملت عدة محافظات في جنوب العراق، هي - بالإضافة إلى البصرة - ذي قار والمثنى وميسان وواسط، واقتربت من كربلاء والنجف وبابل والعاصمة بغداد.
والرقم المرعب للإصابات بالسرطان في البصرة لا يقل عن 2000 إصابة سنوياً، وهو رقم أعلى من أي إصابات في دول الجوار بسبب التلوث الإشعاعي.
البعيدون عن جحيم تلك الحرب قد لا يعلمون أن عدد الأهداف المدرعة المدمرة للجيش العراقي السابق في عام 1991 كان 3700 هدف، تم تدمير 1300 منها بقذائف اليورانيوم المنضب التي جرى استخدامها مرة أخرى بكثافة، وعلى بغداد بشكل مُركز، في غزو العراق عام 2003، بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل! ولم تكن الأضرار محصورة بالقوات العسكرية، لكنها تعدتها إلى الأورام الخبيثة التي انتشرت عند الأطفال والأمهات، خاصة أن أكاسيد اليورانيوم الناجمة عن اختراق القذائف عند انفجارها تتحول إلى كُتل غبار ورماد تذروها الرياح وتنقلها العواصف إلى المدن والقرى، لتتسبب في الأورام الخبيثة لدى الأطفال، وهي سرطانات الدم وأورام الغدد اللمفاوية والدماغ والغدد الصماء والعظام والعيون، بالإضافة إلى الأمراض النفسية على أنواعها. وتتضاعف المشكلة في العراق بسبب هجرة أو اغتيال كثير من الأطباء، وإغلاق عدد من المستشفيات لعدم تيسر الكهرباء والمياه والأدوية.
توجد خامات معدن اليورانيوم في أربع دول عربية، هي الإمارات والسعودية والجزائر ومصر. أما أكبر الدول في الإنتاج، فهي الأولى كازاخستان، والثانية كندا، والثالثة أستراليا، والرابعة ناميبيا، والخامسة النيجر، وهي الدولة التي تم اتهامها بتصدير اليورانيوم إلى العراق قبل الحرب الأخيرة، والسادسة روسيا، والسابعة أوزبكستان، ولها مشروعات مشتركة مع الصين واليابان، والثامنة الصين، والتاسعة أوكرانيا، وتملك 15 مفاعلاً نووياً، والعاشرة جنوب أفريقيا التي تملك مفاعلين نوويين. ومعظم الدول المنتجة تستخدم اليورانيوم لإنتاج الكهرباء أو التسليح.
عموماً، فإن التلوث البيئي عام وشامل في الصحارى أو الغابات، لا فرق، في القطبين الشمالي أو الجنوبي، في المحيطات أو البحار، في الوديان أو السهول، في الدول الثرية أو الفقيرة. لكن التلوث باليورانيوم غير التلوث بعوادم السيارات والشاحنات والحافلات والقطارات البخارية ونفايات البواخر العملاقة واليخوت الصغيرة. الشعوب البعيدة عن إشعاعات اليورانيوم عليها أن تحمد الله ليلاً ونهاراً على ما هي فيه من «نعيم» عوادم السيارات ونفايات السفن وبخار القطارات وإزالة أشجار الغابات.
إليكم الدول العشر الأكثر تلوثاً بهذا «النعيم»:
أولاً: بنغلاديش، وتشكو من تلوث الهواء والمياه الجارية والجوفية والضوضاء ومصانع الإسمنت ومواد البناء. وثانياً: باكستان، وتلوثها سببه قطع الأشجار ومصانع الصلب وحرق القمامة، وتستغل باكستان معاناتها من الضباب الدخاني، فترميه على جارتها اللدود الهند. وثالثاً: منغوليا، وفيها حرق الفحم والأخشاب وفضلات المحاصيل الزراعية، وقد ازدادت التهابات الجهاز التنفسي فيها بنسبة 270 في المائة خلال السنوات العشر الأخيرة. ورابعاً: أفغانستان، وظهر أن تلوث الهواء فيها أكثر خطورة من الحروب التي خاضتها والتسمم الغذائي الشائع، وبلغ تلوث المياه فيها 80 في المائة من مياه الشرب بسبب قلة هطول الأمطار وسوء استخدام المياه الجوفية وتردي البنى التحتية في المدن.
أما الهند، فتحتل المركز الخامس، ومعظم التلوث من السيارات وحرق الفحم والخشب وحرائق الغابات الموسمية والعواصف الترابية والكثافة السكانية. والمركز السادس من نصيب إندونيسيا، حيث يموت سنوياً نحو ربع مليون نسمة بسبب تلوث الهواء. والمفاجأة أن مملكة البحرين تحتل المركز السابع في تلوث الهواء في الشرق الأوسط بسبب العواصف الرملية والترابية، وما تحمله من مواد كيماوية ضارة، وحتى مواد مشعة، من مناطق بعيدة، كما ذكرت «سكاي نيوز» العربية. وللسبب نفسه تحتل نيبال المركز الثامن، ومعظم السكان يشكون من التهابات القصبات الهوائية وانتفاخ الرئة، تليها أوزبكستان في المركز التاسع، وحالتها فريدة، إذ تقول منظمة الصحة العالمية إنها نُكبت بثالث أعلى معدل وفيات خلال فصلي الربيع والصيف، ويرتبط تلوثها بعوامل من خارج حدودها، كالعواصف الرملية والترابية.
ويحتل العراق، المرتبة العاشرة في التلوث البيئي لرداءة المناخ والحروب ومولدات الكهرباء المنزلية وحرق الغاز وانتشار النفايات وجرف البساتين، ويمكن أن نضيف إلى أسباب التلوث فيه الفساد المالي وتصريحات المسؤولين والميليشيات المنفلتة التي تقف وراء أمراض القلب والكآبة وتشوه الأجنة والمجاعة والجلطات الدماغية والقلبية.
نعود إلى موضوعنا عن التلوث الإشعاعي في العراق، وسببه الولايات المتحدة التي قادت حربين عالميتين على العراق في 1991 و2003، ورفضت إزالة مخلفات الحربين وإشعاعات اليورانيوم المنضب المنتشرة في أنحاء البلاد، بذريعة «أنها غير مضرة»! وهي تعلم أن هذا الإشعاع قاتل مشوه للأجسام والأطفال، ولم تسمح قبل سنوات حتى لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة بإجراء مسح ميداني شامل لتقييم مخاطر البيئة الناجمة عن استخدام أسلحة مزودة بمواد كيماوية خطرة أو يورانيوم مشع.
الآن، لا همّ للرئيس الأميركي الحالي جو بايدن أكثر من المناخ في الكرة الأرضية. وأول تأثيرات المناخ السيئة هو الهواء. والهواء ملوث بإشعاعات اليورانيوم الأميركي في العراق المُبتلى بالرياح السامة القادمة من إيران.
ليس أمامنا إلا إغلاق النوافذ.