ميشيل غولدبرغ
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

أنجيلا ميركل كانت على صواب

تأتي ذروة الأحداث في السيرة الذاتية الجديدة الآسرة لأنجيلا ميركل التي وضعتها كاتي مارتون بعنوان «المستشارة»، عام 2015، وذلك عندما رفضت الزعيمة الألمانية إغلاق حدود بلادها في مواجهة طوفان اللاجئين المتدفق هرباً من الحرب الأهلية وانهيار الدولة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وقالت ميركل: «إذا أخفقت أوروبا في التعامل مع مسألة اللاجئين، فإنها لن تكون أوروبا التي نأملها». ودعت المستشارة الألمانية الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي هي أيضاً لاستقبال المزيد من الأشخاص. وأضافت ميركل: «لا أود الدخول في منافسة داخل أوروبا حول من سيولي هؤلاء الناس المعاملة الأسوأ». وترى الكاتبة أن هذا الموقف جاء بمثابة قفزة سياسية كبرى وموقف أخلاقي بطولي شكل السمة المميزة لإرث ميركل السياسي.
بحلول نهاية العام، كان مليون لاجئ قد وفدوا إلى ألمانيا. وتوقع الكثير من المراقبين تعرض البلاد لكارثة جراء ذلك. وتبعاً لما ذكرته مارتون، فإن هنري كيسنجر، بصراحته الفظة المعهودة، قال لميركل ذات يوم: «أن تؤوي لاجئاً فهذا عمل إنساني، لكن السماح بدخول مليون غريب يهدد الحضارة الألمانية».
وأشارت مارتون إلى قول زميلي روس دوثات في مقال له إن أي شخص يظن أن باستطاعة ألمانيا «أن تستوعب على نحوٍ سلميٍّ هجرة بهذا الحجم والمستوى من التباين الثقافي» ليس سوى «أحمق».
وأشارت الكاتبة إلى مخاوف وزير المالية السابق هانك بولسون من أن اللاجئين «سيسطرون النهاية السياسية» لميركل.
لبعض الوقت، بدا هذا التشاؤم له ما يبرره. كان المقال الذي كتبه دوثات قد جاء على خلفية تفجر أعمال عنف في كولونيا عشية العام الجديد، نتيجة اعتداء مجموعة من الغوغاء، معظمهم من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جنسياً على العشرات من السيدات والفتيات.
وأجج تدفق اللاجئين صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، الذي فاز عام 2017 بـ94 مقعداً ليصبح أكبر حزب معارض داخل البرلمان.
وألقى البعض اللوم على ميركل عن إصابة البريطانيين بالفزع ودفعهم نحو «بريكست». وعندما كان مرشحاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية، عمد دونالد ترمب إلى استغلال هذا الأمر. ورغم احتفاظ ميركل بمنصب المستشار بعد انتخابات عام 2017 فإن حزبها «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» خسر 65 من مقاعده.
ومع ذلك، فإنه رغم مرور ست سنوات الآن، لم تقع الكوارث التي توقعها منتقدو ميركل. وخلال الانتخابات الألمانية الأخيرة، لم يكد يكون لقضية اللاجئين وجود، بينما خسر «البديل من أجل ألمانيا» مكاسبه السابقة.
في هذا الصدد، قال كوشتانس شتلتسينمولر، الخبير في الشؤون الألمانية والعلاقات عبر الأطلسية بمعهد «بروكنغز»: «الشعور السائد أنه ظهر قدر ضئيل نسبياً من التطرف الإسلامي أو الجرائم المتطرفة جراء هذه الهجرة، ويعد هذا أكبر عدد من المهاجرين يجري دمجه بنجاح في قوة العمل الألمانية والمجتمع الألماني ككل».
وفي حديث دار بيننا، قالت مارتون: «بمرور الوقت اتضح أن ميركل اختارت بالضبط المسار الصائب ليس لألمانيا فحسب، وإنما للعالم كله».
وكانت سياسة اللاجئين ما ألهم مارتون، الرئيسة السابقة لمكتب محطة «بي بي سي» في ألمانيا والتي سبق لها تأليف تسعة كتب، للكتابة عن ميركل في المقام الأول. جدير بالذكر هنا أن مارتون نفسها ابنة لاجئَين من المجر، كانا صحافيين وتعرّضا للسجن على يد النظام الشيوعي، وحفيدة ضحايا قضوا في أوشويتز. كما أنها أرملة الدبلوماسي الشهير ريتشارد هولبروك، الذي بدأت قصة ارتباطها عاطفياً به عندما كان سفيراً للولايات المتحدة لدى ألمانيا في عهد إدارة بيل كلينتون.
وقالت مارتون إنها في أثناء مشاهدتها ميركل في صيف 2015: «قلت في نفسي: ياللعجب! مَن هذه السيدة وكيف تفعل ذلك؟».
في الواقع، يكمن جزء وراء قبول الألمان قرار ميركل - بل احتفائهم به في كثير من الحالات - في العلاقة الفريدة التي تربط وطنهم بتاريخهم الوطني. لقد جعلت ألمانيا من حسابها لنفسها عن الهولكوست محوراً لهويتها، وسارع الكثير من المواطنين بالتشبث بهذه الفرصة كنوع من التعويض عن الماضي.
وكتبت مارتون أنه «عندما وصلت القطارات إلى داخل محطة ميونيخ المتلألئة، قوبل الرجال والنساء والأطفال الذين أنهكهم التعب ببحر من اللافتات التي حملت عبارة «مرحباً بكم في ألمانيا»، رفعها عالياً مواطنون بدت عليهم البهجة واصطفوا على أرصفة المحطة.
وساعد متطوعون في تحويل مدارس ومخازن إلى أماكن للنوم. وعن هذا الأمر، قال شتلتسينمولر: «شعر الألمان بسعادة غامرة - بل بشعور من الإثارة - لاضطلاعهم بدور المنقذين الإنسانيين».
ومع ذلك، فإنه كان لدى اللاجئين ما يقدمونه لألمانيا أكثر عن مجرد تلميع الصورة، ذلك أنه داخل دولة تتسم بالتقدم في العمر ومعدلات مواليد منخفضة، شكّل هؤلاء اللاجئون إضافةً مفيدة لقوة العمل.
وعن هذا الأمر، قال شتلتسينمولر إن الاقتصاد الألماني «كان يبحث عن أيدٍ عاملة منذ ما قبل الجائحة، وعليه كان هناك طلب حقيقي وربما ترحيب من جانب سوق العمل والشركات تجاه مساعدة هؤلاء الأشخاص. وبطبيعة الحال لدينا هنا تجربة طويلة تتمثل في الممارسة التي تنتهجها ألمانيا منذ عقود وتقوم على تدريب العاملين في أثناء العمل، والتي يجري النظر إليها كنموذج يُحتذى من جانب دول أوروبية أخرى، بل داخل الولايات المتحدة».
وبالتأكيد، لن تلقى جميع الدروس المستفادة من تجربة اللاجئين في ألمانيا ترحيباً من التقدميين، خصوصاً أن ميركل، قبل أي شيء، تزعمت حزباً ينتمي ليمين الوسط، وانتهجت حكومتها توجهاً محافظاً إزاء دمج المهاجرين.
ونقلت مارتون عن ميركل قولها في أثناء اجتماع لحزبها عام 2015: «اللاجئون يتحملون مسؤولية التكيف مع الحياة الألمانية، فالتعددية الثقافية ليست سوى خدعة».
وسيكون لزاماً على الوافدين الجدد تعلم الألمانية، إلى جانب أنه جرى توطينهم بمختلف أرجاء ألمانيا لمنع ظهور غيتوهات لهم. وحسبما كتبت مارتون، فإن ميركل «كانت عاقدة العزم على تجنب التركيزات السكانية الكثيفة من المهاجرين التي تطوّق مدناً في فرنسا وبريطانيا».
وفي نهاية الأمر، لم تترك ميركل الحدود مفتوحة، وإنما تفاوضت في النهاية بخصوص اتفاق مثير للجدل مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، كي تستوعب تركيا طالبي اللجوء وتَحول دون تقدمهم نحو أوروبا. والمؤكد أن ميركل لم تستمر في سدة الحكم طوال 16 عاماً بسماحها لعواطفها بالتغلب على اعتبارات السياسة الواقعية.
المؤكد أنه باستقبالها مليون لاجئ في حالة يُرثى لها في وقت كانت دول أخرى تشيّد أسواراً من الأسلاك الشائكة، حققت ألمانيا إنجازاً عظيماً يمكن لباقي دول العالم التعلم منه في وقت تدفع الحروب والكوارث الطبيعية الملايين للبحث عبر أرجاء العالم عن ملاذ.
وقالت مارتون: «اليوم، أصبح لدينا دراسة حالة أو نموذج لكيف يمكن لمثل هذه الجهود أن تنجح، وآمل أن يستفيد العالم من هذا النموذج الذي قدمته ألمانيا».
وقد كان شعار المستشارة الألمانية عام 2015: «بمقدورنا إنجاز ذلك».
* خدمة «نيويورك تايمز»