بريت ستيفنز
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

ما الذي ينبغي أن يحافظ عليه المحافظون؟

ألقى فيديادر نيبول عام 1990 محاضرة شهيرة عن «حضارتنا العالمية الأممية»، وكان ذلك بعد سقوط جدار برلين، وصعود الديمقراطية الليبرالية، وأراد فيديادر نيبول تأمل ما تعنيه الحضارة العالمية الأممية، التي كان يقصد بها الغرب، لشخص مثله، ابن هندوسي من ترينيداد خلال الحقبة الاستعمارية نجح في الصعود والانتقال من «الهامش إلى المركز».
كان نيبول يهدف إلى أن تكون محاضرته احتفاء بالغرب، لكنه شعر بتيار خفي من الاضطراب والانزعاج، وجده في رواية «ذا فورينر» (الأجنبي) لناهد رشلين عام 1978. وكانت تلك الرواية عن امرأة إيرانية تعمل عالمة أحياء في بوسطن، وتبدو مندمجة تماماً في الحياة الأميركية، لكن لدى عودتها من زيارة إلى طهران تفقد اتزانها النفسي وتمرض، ليتبين بعد ذلك أن العلاج هو الدين. وأوضح نيبول قائلاً: «نستطيع أن نرى كيف كانت المرأة الشابة غير مستعدة للانتقال بين الحضارات، أي الانتقال من العالم الإيراني المنغلق، حيث تسيطر المعتقدات الدينية ولا توجد أي مساحة للعقل أو الإرادة أو الروح، إلى عالم آخر مغاير من الضروري فيه أن يكون المرء فرداً مسؤولاً».
كنت أفكر في نيبول ورشلين بينما أقرأ رواية سوهراب أهماري الجديدة «ذي أن بروكين ثريد» (الخيط غير المقطوع). ويعد أهماري، الذي يعمل حالياً محرراً لمقالات الرأي في صحيفة «نيويورك بوست»، صديقاً وزميلاً سابقاً بيني وبينه خلاف سياسي. وقد تحول بشكل مفاجئ منذ نحو ثلاث سنوات من شخص محافظ معارض لترمب، وكذا مهاجم ومناهض لليبرالية الجديدة، إلى شخص غير ليبرالي تماماً، وهاجم المحافظين «اللطفاء الوديعين»، ويعتقد أنهم لا يقدرون أن الليبرالية القائمة على الحقوق لعبة حمقاء لا يمكن أن يفوز فيها سوى اليسار.
تتسم رواية أهماري المكتوبة بأسلوب أنيق ورائع بأهمية كبيرة لأنها تسعى وراء منح صوت أخلاقي لما يعد حتى هذه اللحظة بالأساس صرخة شعبوية ضد قيم الليبرالية النخبوية، التي تتسم بوجه خاص بازدرائها لكل الحدود من المحرمات والمحظورات الأخلاقية إلى الحدود بين البلاد والطقوس الدينية. واستخدم أهماري لتحقيق ذلك سلسلة من سير وتراجم مفكرين بارزين موجزة، مثل كونفوشيوس وسينيكا وأوغسطين وكلايف لويس وأبراهام جوشوا هيشيل وأندريا دوركين، عاشوا حياة الأثرياء من خلال التزام الحدود والاحتفاء بها. وهناك الكثير مما يثير الإعجاب، خاصة اختيار الكثير من النماذج الذي أوردها أهماري لحياتهم، والسباحة ضد التيار السائد في عصورهم.
ويصدق ذلك أيضاً على أهماري نفسه، فهو مهاجر من إيران وصل إلى أميركا في ظروف فقيرة وصعبة، وسرعان ما صعد وترقى في صفوف رجال الفكر والثقافة من المحافظين وأخذ يتنقل بين سياتل وبوسطن ولندن ونيويورك، وتحول إلى الكاثوليكية، وكذا من تيار المحافظين الجدد إلى تيار المحافظين الأصوليين القدامى، كل ذلك وهو لا يزال في منتصف الثلاثينات من العمر.
إنه مسار يشبه مسار نيبول، لكن كان هدف أهماري السياسي يختلف عن هدفه الشخصي. لقد أصبح يشعر بخيبة الأمل تجاه المجتمع الذي قدّم له حرية الاختيار، وبالحنق لأن ابنه سوف يكبر ويصبح فرداً ضمن نخبة غربية تعمل وفقاً لنظام حكم الجدارة القاسي، لكنها تتسم بالخواء الروحاني. ويعبر عن حزنه لاتخاذ ولاية داكوتا الشمالية قراراً بالتخلي عن القانون الأزرق الذي يقضي بعدم القيام بأي أعمال أيام الأحد. كذلك يشعر بالأسى لأن «النظام الأميركي لا يحافظ سوى على القليل من المُثل العليا الأساسية التي أود تعليمها لابني».
يمكن القول بإيجاز إن أهماري، مثل بطلة رواية رشلين، يعتقد أنه كان من الأفضل أن يتم وضع بعض القيود على الاختيار، ليس فقط لنفسه بل للآخرين أيضاً. ويطل هنا اتهام بالنفاق يقر به أهماري بشكل جزئي، فما لم يذكره هو أن إعجابه بالرقي والنبل الراسخ لهيشيل أو الأكويني لم يمنعه من التحول إلى فرد متحمس، وإن كان متأخراً، من عصبة دونالد ترمب، الذي يستلذ بالتنمر.
مع ذلك التهمة الأكبر الموجهة إلى رواية أهماري هي فشل وفقر خياله الأخلاقي والسياسي، فالقدرة على الاختيار ليست ضد الأخلاق، بل لعلها من الشروط الأساسية للاختيار. لهذا السبب بحسب المنظور اللاهوتي، يجب للإغواء أن يظل موجوداً. لهذا السبب تميل أميركا، رغم كل عيوبها ومثالبها، باتجاه نوع من الاحتشام المتساهل البسيط، ولهذا السبب أيضاً تميل دول مصابة بهوس الفضيلة مثل إيران إلى التعبير عن القسوة علناً وممارسة الفساد سراً.
وتعد أكبر كذبة وفرية لأهماري هي أن النظام الأميركي لا يقدم سوى القليل من المُثل العليا الأساسية.
لقد أصبحت البقية الباقية من أصحاب الفكر المحافظين اليوم منقسمة، فعلى أحد الجانبين يوجد من يعتقدون بضرورة رجوع التيار المحافظ إلى مناهضة الليبرالية بالطريقة الأوروبية الرجعية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وعلى الجانب الآخر يوجد من يعتقدون أن هدف التيار المحافظ الأميركي هو الحفاظ على المبادئ الأساسية الجوهرية لعام 1776، وهي العقل المفتوح والمجتمع الأكثر انفتاحاً.
- خدمة «نيويورك تايمز»