سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

صرّاف مكة: مصرفي البلاد

أمتع ما يروى من القصص في العالم، حكايات النجاح. أو العصاميين. أو «صانعي الذات»، كما يقول الغربيون. وإن الرئيس رفيق الحريري يعترض على تسميته بالعصامي، بعدما أصبح أغنى رجل في تاريخ لبنان، عائداً من الرياض، حيث بدأ العمل بستمائة ريال في الشهر.
سبب اعتراضه «المتوتر» أحياناً، أن «العصامية» تلغي دور الوالدين وأفضالهما والبر بهما. وهو كان يفاخر بأن والده كان يعمل في صيدا، قطاف برتقال في بساتينها الكثيرة. وكان رفيق، مساعده في المواسم. وشاري البساتين فيما بعد، لا يريد أن ينكر على والده قدسية الأبوة الشقية.
تجد فيضاً من حكايات النجاح في الجزيرة العربية، التي كانت في مرحلة سابقة، رمز المحل وأصبحت، فيما بعد، موطن الازدهار، وأرض الذهب، وملاذ الملايين من قاصدي وطالبي الكفاية. وكما يحدث في النفوس الصغيرة في أي مكان، قامت فئة من المتخلفين تقول «إن النفط نقمة لا نعمة».
كنا نتناقش مرة في إحدى الحلقات الصغيرة، عندما اختلف الدكتور عثمان الرواف مع أحد الحاضرين اختلافاً حاداً. وبما أنه خالص الأدب والتهذيب، ولا يسلط لساناً على أحد، فقد التفت نحوي بكل جدية وقال: «أعرني هويتك اللبنانية بضع دقائق لكي ألقن هذا الرجل درساً لا ينساه». وقد نبهني بذلك إلى السلاح السري الذي أحمله. ومن يومها، كلما قال صديق عربي أو لبناني، سقى الله أيام العدس والبصل مع الزيتون، وهو يتربع على ورثة روكفلر، أسحب من جيبي هويتي اللبنانية وأطلق منها رشقاً من النوع الذي يطلبه عثمان الرواف.
«رحلة الفقر والغنى» للراحل محمد إبراهيم السبيعي تكاد تكون مختلفة عن جميع القصص في هذا الحقل شبه الخيالي: رغم التشابه في العناصر الأساسية، «اليتم والفقر والأم» المتعبة. ثم الرحلة من بريدة إلى مكة لعل الفرص أفضل. وتستغرق الرحلة على ظهر البعير 27 يوماً في أكثر البقع حراً وأكثر الأشهر حرارة، وأكثر الأماكن نفراً. ولكن الفتى محمد إبراهيم السبيعي يبدأ حياة جديدة في أي حال. يعمل في دكان عمه في النهار وسقاياً في الليل في بلاد تندر فيها المياه، وإذا ظهرت، فهي لا تشرب. ويروي الدكتور أنور الجبرتي أنه كان يافعاً في المدينة المنورة ولم يكن يستطيع أن يشرب المياه إلا من خلال قطعة قماش. والآن، مع الأمير فيصل بن سلمان، تتمتع المدينة بأحدث أجهزة مياه الشرب والري كأنما الماضي الشحيح لم يكن يوماً هاجس الليل والنهار.
دخل محمد السبيعي في شراكة مع سليمان بن غنيم، أحد تجار مكة، لسنوات عدة. ثم تنبه الرجل الذي بالكاد تخرج من الكُتاب إلى أمر لافت للنظر: الحجاج القادمون من أنحاء الأرض يأتون ومع كل واحد منهم عملة بلاده. ولم يكن الدولار معروفاً في المنطقة بعد. هكذا خطرت له أن يفتح أول محل صرافة في أم القرى. ولم تعد خطى النجاح تتوقف. وذات يوم أسس الصراف الصغير مع رفاق له «بنك البلاد» الإسلامي، الذي أصبح أحد البنوك الرئيسية في المملكة قبل وفاة محمد بن إبراهيم السبيعي عن 104 أعوام قبل سنتين.
النجاح فكرة يراها الجميع، ولا ينتبه إليها إلا الناجحون. وقد لا تكون العصامية دقيقة في وصف ثروة من 15 مليار دولار تركها رفيق الحريري، ومعها لقب دولة الرئيس. لكن «الرواد» أكثر دقة في وصف «رحلة الفقر والغنى» التي قطعها محمد السبيعي. أجمل ما في تلك الرحلة ما تركه في حياته المديدة من أعمال الخير. ليس في عسير، ولا مكة، بل في أنحاء «البلاد».