خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

... وإلا سيرتك الشخصية سيرويها خصومك

لا تستطيع التحكم في جزء كبير من أحداث حياتك. أولدت غنياً أم فقيراً. صحيحاً أم مريضاً، في مجتمع منفتح أم منغلق. في أي زمن وفي أي جغرافيا.
لكن ما تستطيع أن تتحكم في جزء كبير منه هو سردية حياتك. كيف تروي هذه الأحداث؟ قصة شظف ومسكنة ودعوة إلى الحقد، أم قصة كفاح وتحدٍّ ودعوة إلى الأمل... نقمة كاملة، أم نعمة متخفية. شقاء حتمي، أم متع مسترقة ما استطعت إليها سبيلاً.
سرديتك هذه لا تقدمها للآخرين فقط، الأهم منها السردية التي تقدمها لنفسك، لأن هذه الأخيرة تصوغ شخصيتك، وترسم لك صورتك الذهنية عن حالك. هذا ظلك على الأرض به تعرف إلى أين توجه الشمس نورها.
وهكذا أيضاً الأمم. بعض الأمم عظمت أثرها في التاريخ لأنها قدمت سردية روائية متميزة، وبعضها كانت أمماً عظيمة، لكنها فشلت في تقديم رواية جذابة عن تاريخها ذاك، أو استسلمت لسردية خصومها عنها.
السردية جعلت شعباً صغيراً كالشعب اليهودي مؤثراً في ثقافة العالم حتى يومنا هذا. والسردية أظهرت حضارة عظيمة كالحضارة المصرية القديمة وكأنها حضارة بلا إرث لمدة ألفي عام سبقت شامبليون. السردية نسبت إلى حضارة أثينا ذات الثلاثمائة عام أفكار العالم، والسردية غيبت إسهام الحضارات الشرقية وبعضها مستمر من آلاف السنين بلا انقطاع إلى يومنا هذا. أبرز عناصر قوة الولايات المتحدة في القرن الماضي امتلاكها السردية، عبر هوليوود، والأدب الأميركي. وأبرز مؤشرات إلى احتمال تراجعها أنها فقدت هذه السردية، فصار الرجل، وصار الأبيض، متهمين على طول الخط، أو ثلاثة أرباعه. اليسار المعادي للتاريخ الرأسمالي تحكم في السردية من خلال الأكاديميا والإعلام والآن السوشيال ميديا.
السردية ليست تقييماً موضوعياً للمنتَج، السردية تقييم نسبي له. بحسبه، يقرر المشتري هل يسعى إلى اقتنائه أم ينفر منه من الأساس.
الدولة الوطنية، الحديثة للغاية، في منطقتنا، كانت هي الأخرى ضحية امتلاك فلول العثمانيين، وحلفائهم من الأمميين، للسردية. لا يعني هذا أنها كاملة الأوصاف، منزهة عن التقصير.
لقد قصرت أولاً التقصير الطبيعي للدول الناشئة. التي لم تمر بخبرة أوروبا القرون الخمسة الأخيرة. ومن الطبيعي أن تخطئ، وتتعجل، وتكبو. لكن ليس من الطبيعي أن تتعرض لحرب وجود، وشرعية، منذ لحظة ميلادها، وأن يكون مشعلو الحرب مواطنين فيها.
لكنها قصرت التقصير الأكبر حين استهانت بالسردية. استهانت مرة بسردية تريد أن تقيّمها بمعيار القرون السوالف، بل بأساطير القرون السوالف، عن حبة القمح التي كانت في حجم التمرة، أو عن بيت المال الذي لم يكن يجد في عموم الأرض محتاجاً. أوهام سمحت بنشرها من دون أن تسمح بانتقادها، وحسبتها هينة، وهي في حركة التاريخ كمين.
واستهانت مرة أخرى بسردية تريد أن تقارنها بدول أوروبا، بل إن السردية أغرتها هي نفسها، إذ أراد «تقدميوها» أن يقدموا أنفسهم في صورة القادر على ما لم تستطعه النظم «البائدة». التكفل بكل شيء. وفي غمضة عين سنناطح قوى العالم الكبرى وننتصر، وسيكون البلد من أقصاه إلى أقصاه قطعة من أوروبا.
سردية الحصاد في موسم الغرس، أو بعده بوقت ضئيل. سردية جحيمية، تجعل فيها الدولة نفسها محارباً في أسطورة هيدرا اليونانية. الثعبان الذي كلما قطعت له رأساً نبت رأسان. دوامة لم تستطع قوة عالمية مثل الاتحاد السوفياتي مقاومتها، فانهارت، وانهارت أسطورة الإدارة المركزية للاقتصاد.
مثلها مثل هيدرا، تنهكك هذه السردية وتستنزفك، بفعلك أنت. تخيل المعادلة الحسابية: كلما وجهت جهدك إلى القضاء على مشكلة ظهرت لك مشكلتان. متوالية هندسية إن بدأتها بواحد، على المربع الأول في رقعة شطرنج، ستصير اثنتين على المربع المجاور له. لكنها ستصبح 263 على المربع الأخير، رقم خرافي جربه بنفسك على الآلة الحاسبة. لكنني أؤكد لك أن الدول انهارت قبل أن تصل إليه. رغم أن المطلوب يبدو - كما تقدمه السردية التقدمية - بسيطاً.
المربع الأول: ادفع لتعليم الولد. الثاني: شغّل من علمته وعلّم المواليد الجدد. الثالث: احتفظ للقدامى بأشغالهم، وشغّل المواليد الجدد الذين علّمتهم، وعلّم المواليد الأحدث واضمن «رزق الله» للمولود الذي بعده. وهكذا بمتوالية لا تتوقف. يتكرر هذا في بند السكن، وفي بند الطب، وفي بند الطرق، وبند المرافق، وعلى الجانب لا بد من رعاية المواهب. للأسف، المواهب هي أولى ضحايا الاقتصاد المركزي. للأسف أيضاً، المواهب هي التي تصوغ السرديات.
في مساحة بسيطة مررنا على السردية الوطنية، والاقتصادية، والتاريخية. لكن السرديات لا تنتهي. يهمنا هذا ونحن الآن في مرحلة مفصلية من حيث اتجاه السير. فيها جهد واضح نحو التنمية. يحتاج هو أيضاً إلى سردية تعبر عنه. كيف نصوغها؟
أسوأ ما فعلته دول الخمسينات التقدمية كان تكليف أشخاص معينين بكتابة سردية. هذا يقلل احتمالات جودة المنتج. يشبه حجرة مرايا، تبدو لا نهائية الاتساع، لكنها ضيقة الأفق. أو يشبه خلية نحل تكلف عنصراً واحداً بملاحقة الملكة. أم كلثوم لم تكن مكلفة بشغر مقعد «كوكب الشرق»، ولا طه حسين مقعد «عميد الأدب». كلاهما نافس مئات غيره. بعضهم نعرفه، وبعضهم ذهب اسمه من التاريخ.
الدولة الحديثة، في الاقتصاد، في الفكر، في الفن، وظيفتها ضمان المنافسة تحت ظل القانون. السوق الحرة في مختلف المجالات، تحت عين قانون رحب. صاحب السردية الأنسب في كل مجال سيزدهر بتفوقه في المنافسة، من هو أو هي؟ لا نعرف بعد، آخرون سيكونون في الصف الثاني وهكذا، بهذا فقط نضمن بروز أفضل السرديات، هكذا يعمل في الطبيعة قانون البقاء.