د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

الاقتصاد السياسي من خلال العلاقة مع النمو والتنمية في العراق

يعرف الاقتصاد السياسي بأنه دراسة الإنتاج والتجارة والثروة، وعلاقتها بالقانون والعادات والحكومة، وبتوزيع الدخل القومي، إذ نشأ كنظام من الفلسفة الأخلاقية في القرن الثامن عشر لاستكشاف إدارة ثروة الدول، وهو علم يبحث في ثورة الشعوب والأسباب التي تجعل مرتبة أمة فوق مرتبة أمة أخرى في السعادة والرفاهية، والغرض منه الإرشاد إلى ما ينبغي القيام به لتقليل عدد الفقراء قدر الإمكان. من هذه المقدمة، أنطلق في مناقشة هذا الموضوع المهم والمصيري، حيث اهتمت مجموعة البنك الدولي في أهم إصداراتها في عام 2020، «التنمية الدولية تحت المجهر: مذكرة اقتصادية حول التنويع والنمو في العراق» تناولت في جانب منه، الاقتصاد السياسي وأثره على النمو والتنمية في العراق.
ويعد الخلاف بين النخب السياسية، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، والعلاقات بين المجموعات الاجتماعية، عناصر ضرورية لفهم الاقتصاد السياسي للعراق. ففي أوقات مختلفة من تاريخ العراق الحديث تحول الخلاف نحو العنف، إذ اندلع الصراع بشكل رئيسي حول التنافس على السلطة والموارد، ولجأت النخب العراقية إلى توظيف الانقسامات العرقية والطائفية بين الجماعات في سعيها وراء السلطة. كما أن التدخل الخارجي عزز من الانقسام وتحول العراق إلى ساحة لتنافس جيوسياسي. ومع ذلك، فإن الخلاف راح ينتقل بشكل متزايد نحو المطالب الشعبية حيال سوء تقديم الخدمات وفساد مؤسسات الدولة ونقص الفرص الاقتصادية، على نحو ما كشفت عنه الاحتجاجات عام 2019 في العراق. وإضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على النفط هو محرك قوي يغذي عامل الهشاشة، وقد عززت الخلافات على جميع المستويات، مما أدى إلى تأجيج التنافس بين النخب وتقويض مساءلة الدولة أمام المواطنين.
وقد أفضت التسوية السياسية الحالية التي تستند إلى تقاسم العوائد الريعية والسلطة بين الأحزاب السياسية، إلى استحواذ النخب وتفشي المحسوبية على نطاق واسع، بالإضافة إلى الشلل السياسي، حيث أنتج النظام السياسي بعد عام 2003 اتفاقاً بين النخب مبنياً على الهويات العرقية والطائفية. وفي سنواتها الأولى، أفضت عملية حل مؤسسات الدولة المهمة إلى تآكل البنية التحتية القائمة قبل عام 2003، كما أزاحت الخدمة المدنية العليا التي كانت تديرها. ومع مرور الوقت، تحولت العملية السياسية النخبوية من تقاسم السلطة وفق أسس طائفية وعرقية إلى تقاسمها على أساس الأحزاب السياسية والاستقطاب، وأصبح تسييس التعيينات الرئيسية مكوناً رئيسياً للآلية التي استطاعت من خلالها الأحزاب السياسية توسيع شبكات الولاء بهدف تعزيز شرعيتها وثروتها، وعلاوة على ذلك، أدى التشتت المتزايد للمشهد السياسي في العراق إلى زعزعة الاستقرار والشلل السياسي وتغذية حالة الهشاشة.
لقد كان لاعتماد العراق على النفط أثر كبير في التسوية السياسية والعوائد الاقتصادية. فعلى امتداد العقدين الماضيين، ورغم التقلبات في أسعار النفط، استحوذ قطاع النفط والغاز في العراق على كامل قيمة الصادرات النفطية. وقد أدت ثروة العراق النفطية إلى تقويض القدرة التنافسية، كما قللت من العائدات الحكومية، مثل الإيرادات الضريبية وغيرها، الذي يكمن في صميم عمليات بناء الدولة الناجحة. ونتيجة لذلك، تراجعت القدرة الإدارية للعراق وعجزت مؤسساته عن الاستجابة للتطورات الحاصلة في العراق.
بالإضافة إلى ذلك أدى عدم الاستقرار السياسي، وإيرادات النفط الريعية، وسعر الخصم العالي للبنوك التي تقدم القروض للحكومة العراقية، إلى تعظيم الإيرادات الريعية ونشوء نظام حوافز يميل فيه صناع القرار لاعتماد خصم كبير للعائد المستقبلي. ويقوض انعدام الاستقرار السياسي مصداقية الالتزامات الحكومية على المدى الطويل، كما يولد إحساساً قوياً بانعدام الأمن داخل النخبة الحاكمة، وهذا ما ينعكس في تفضيلها للوضع السياسي الراهن.
ومن أجل الحفاظ على الوضع الراهن، أبدت النخبة الحاكمة قدراً من الحذر المالي في السنوات الأخيرة، إلا أن الحكومة العراقية لم تستثمر شيئاً بعد في آليات الاستقرار المالي أو الإصلاحات طويلة الأجل. فالتركيز على تعظيم الإيرادات الريعية يدفع بالحكومات إلى تقديم خصومات للإيرادات المستقبلية، وحيث تكون لذلك تكلفة كبيرة على الاقتصاد.
أدى ذلك إلى إخفاق العقد الاجتماعي بين النخب الحاكمة والشعب في العراق في تلبية المطالب الاجتماعية، مما أدى إلى تأجيج الاستياء. وأدى التشتت السياسي المتزايد في العراق إلى رفع حدة هذا الصراع على السلطة، وحرص النخب على الحفاظ على الوضع الراهن مما وسع من الهوة بين النخب الحاكمة ودوائرها الانتخابية. وكمحصلة لذلك، تراكمت المظالم، بخاصة بين الشباب، وانتشرت الاضطرابات الاجتماعية في عام 2019. واشتملت مطالب المحتجين على تحسين الخدمات العامة، مثل التعليم وتوفير الكهرباء والماء، والوظائف، وهذا ما سعت الحكومة العراقية إلى الاستجابة له بشكل رئيسي من خلال توسيع فرص العمل في القطاع العام، وما يترتب عليه من توسيع لاحق في فاتورة أجور الدولة، إذ لم تكن الاستجابة كافية ومستدامة. بدلاً من التركيز على ما ينتجه ويبيعه العراق، كان لا بد للعراق التركيز على الأسلوب الذي ينتهجه في عملية الإنتاج، فالاعتماد على محفظة أصول أوسع وأكثر إنتاجية يحدد في نهاية المطاف قدرة العراق على النمو بشكل مستدام.
ولكن إنتاج الثروة في العراق يخضع بشكل كبير للنفط، على العكس مما هو قائم في الدول المشابهة التي تستمد ثروتها من رأس المال البشري. كانت ثروة العراق تتجه نحو استنفاذ احتياطه النفطي أكثر بكثير مما تتجه نحو تحسين خزين العراق من رأس المال البشري، حيث لاحظنا منذ العقدين الماضيين من عام 2003 تراجع محصلات قطاعي الصحة والتعليم وسوء توزيع الدخل وزيادة أعداد الفقراء.
أخيراً وليس آخراً، عدم قدرة النظام السياسي في العراق بعد عام 2003 حتى اليوم تحقيق مستويات عالية من النمو المتنوع جنباً إلى جنب مع تحقيق السلام والاستقرار ومستويات معيشة أفضل لمواطنيه. فالمستويات العالية من الهشاشة والصراع في العراق التي يعززها الاعتماد الكبير على النفط تعيق فرص التقدم نحو الإصلاح والنمو الاقتصادي للنهوض من واقع الهشاشة، وحيث يمكن للسلام والاستقرار فيها أن يهيئا الظروف المناسبة للمواطنين لتحقيق تطلعاتهم وإيجاد وظائف في القطاع الخاص، وتحقيق الازدهار، لكن المحصلة كانت تراجعاً في مستويات النمو والتنمية، وهذا وسع الأثر السلبي للاقتصاد السياسي في العراق على مستويات النمو والتنمية.
* مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية
- أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاً