د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

النهوض من واقع الهشاشة: التنويع والنمو في العراق

صدر عن مجموعة البنك الدولي في 2020، تقرير «التنمية الدولية تحت المجهر: مذكرة اقتصادية حول التنويع والنمو في العراق»، أكد أن العراق بعد عقدين من الزمن من عام 2003، يعاني من الوضع الاقتصادي المتردي، ويواجه حالة متزايدة من انعدام الاستقرار السياسي، والاضطرابات الاجتماعية المتصاعدة، وفجوة متزايدة العمق ما بين الدولة والمواطن. وفي خضم عدد من الأزمات، بما في ذلك تراجع أسعار النفط، وجائحة «كوفيد - 19»، والاحتجاجات الشعبية، يضاف إليها تراكم تأثيرات السياسات الاقتصادية غير الكفؤة، وغياب الإصلاحات، والعجز عن معالجة الفساد، أدى كل ذلك إلى أن يعاني العراق خلال عام 2020 أسوأ أداء للنمو في الناتج المحلي السنوي، وانعدام الاستقرار، وعدم توفر فرص العمل، والفساد وضعف تقديم الخدمات التي تعتبر من بين المخاطر الأهم التي تعيق النمو والتنمية.
تتوفر فرص الإصلاح مع كل أزمة، ولكن الإصلاح كان صعباً وغير مؤكد بسبب سوء الإدارة والفساد. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أسعار النفط والانخفاض المتواصل في الطلب العالمي على النفط بسبب جائحة كورونا، فإن العراق سيواجه صعوبة في تلبية احتياجات الشعب، ولكن بوسعه الشروع في طريق طويلة، نحو التحول الهيكلي والإصلاح، وهي طريق قد تجعل اقتصاده أقل اعتماداً على النفط، ويحركه بشكل أكبر نشاط القطاع الخاص. وتعكس الاحتجاجات واسعة النطاق التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وأثارت شكوكاً حول الاقتصاد السياسي للعراق، بأنه لم يعد ممكناً تجنب المسار نحو الإصلاح. ومع ذلك، يوضح هذا التقرير بأن السبيل نحو الإصلاح سيتطلب مزيداً من الإصرار ويواجه الكثير من التحديات القائمة لتغيير الوضع الراهن.
ناقش تقرير البنك الدولي ما يمكن أن ينجزه العراق للحفاظ على النمو، لكنه يوضح أيضاً الأسباب التي جعلت العراق عاجزاً عن مستويات عالية من النمو المتنوع جنباً إلى جنب مع تحقيق السلام والاستقرار ومستويات معيشة أفضل لمواطنيه. فالمستويات العالية من الهشاشة والصراع في العراق التي يعززها الاعتماد الكبير على النفط تعيق فرص التقدم نحو الإصلاح والنمو الاقتصادي. وتناول التقرير مسارات استراتيجية يمكن للعراق من خلالها أن يتحرر من واقع الهشاشة، وحيث يمكن للسلام والاستقرار فيها أن يهيئ الظروف المناسبة للمواطنين لتحقيق تطلعاتهم وإيجاد وظائف في القطاع الخاص، وتحقيق الازدهار.
وفي هذا السياق، يقدم التقرير تصوراً لمسببات الهشاشة الأساسية في العراق وتحديات الاقتصاد السياسي وآثارها على نموذج النمو المتنوع من خلال تحليل خصائص النمو في العراق وإمكاناته وفوائد التنويع الاقتصادي، ويعرض إطاراً تشخيصياً للتجارة وتقييماً لإمكانات العراق نحو التكامل التجاري والإقليمي؛ بهدف خلق النمو والاستقرار، ويقدم مراجعة لقطاع الزراعة في العراق والانتقال من الزراعة الأولية إلى أنظمة الأغذية الزراعية، وقدرة القطاع الزراعي على دعم التنويع الاقتصادي والنمو والاستقرار.
وعلى الرغم من أن الثروة النفطية قد سمحت للعراق ببلوغ تصنيف البلدان المتوسطة الأعلى للدخل، فإن مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية تبدو في جوانب عدة شبيهة إلى حد كبير بتلك التي تخص الدول الهشة منخفضة الدخل. فبعد أن كان نظام التعليم في العراق يقترب من الصدارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا أنه يستقر حالياً قريباً من نهاية القائمة، كما أن معدل العراق فيما يتعلق بالمشاركة في الاقتصاد منخفض أيضاً، ويعاني العراق من واحد من أدنى معدلات مشاركة النساء في القوى العاملة في العالم، ومستويات منخفضة من رأس المال البشري والمادي، وتدهور في ظروف الأعمال، كما يعاني أيضاً من واحد من أعلى معدلات الفقر بين بلدان الدخل المتوسط الأعلى. ومن دون تحقيق إصلاحات رئيسية في هذه المجالات، سيواجه العراق صعوبة متزايدة في بلوغ نمو مستدام منصف للحفاظ على مستوى المعيشة فيه.
أضاع العراق فرصاً للإصلاح على الرغم من التحليلات التشخصية الدقيقة التي أجراها البنك الدولي، بما في ذلك المذكرتان الاقتصاديتان حول العراق اللتان صدرتا عن البنك الدولي عامي 2006 و2012 على مجالات إصلاح مماثلة لتلك التي يوردها هذا التقرير، إلا أن العراق لم يحرز حتى الآن أي تقدم ملحوظ في معظم هذه المجالات. وأشارت المذكرتان السابقتان إلى أنه من أجل تحسين مستويات المعيشة، يتعين على العراق الانتقال من الصراع إلى إعادة التأهيل، من هيمنة الدولة إلى التوجه نحو السوق، من الاعتماد على النفط إلى التنويع، ومن العزلة إلى تكامل عالمي وإقليمي أفضل.
ودعت المذكرة الاقتصادية حول العراق لعام 2006 إلى تحقيق النمو والتوظيف في القطاع الخاص، وحماية الفقراء والضعفاء من خلال شبكات أمان اجتماعية قوية ورواتب تقاعدية مستدامة، وتحسين الإدارة العامة والمساءلة، وخاصة فيما يتعلق بإيرادات النفط. كما أشارت إلى أنه على الرغم من أن الدولة لعبت دوراً مهماً في إعادة الإعمار لمرحلة ما بعد الصراع، فإنه كان ينبغي لها أيضاً أن تسمح بالفرصة لمشاركة القطاع الخاص في عملية البناء من أجل الازدهار. وأوصت المذكرة الاقتصادية حول العراق لعام 2012 بثلاث ركائز لتعزيز التنويع: تطوير القطاع الخاص، ودمج الإنفاق العام غير النفطي في أهداف التنويع، وتعزيز روابط الاقتصاد الأوسع مع قطاع الطاقة.
لقد كان للاعتماد على النفط في العراق أثره الكبير على التسوية السياسية والعوائد الاقتصادية، فعلى امتداد العقد الماضي، ورغم التقلبات في أسعار النفط؛ استحوذ قطاع النفط والغاز على كامل قيمة الصادرات، وعلى 90 في المائة من الإيرادات الحكومية وأكثر من 57 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. لقد أدت ثروة العراق النفطية إلى تقويض القدرة التنافسية من خلال تغذية الارتفاع التدريجي لسعر الصرف فيه، كما قلل الاعتماد على الثروة النفطية من حوافز نحو توليد أشكال أخرى من العائدات الحكومية، مثل الإيرادات الضريبية وغيرها من الإيرادات. وأدى هذا بدوره إلى التقليل من الحاجة إلى التفاوض بين الدولة والمجتمع والذي يكمن في صميم عمليات بناء الدولة الناجحة. ونتيجة لذلك؛ تراجعت القدرة الإدارية والفنية وعجزت مؤسساته عن الاستجابة للتطور.
ختاماً، التقرير مهم جداً؛ إذ يشخص مشكلة العراق الاقتصادية بشكل عملي ودقيق، ويضع الحلول الناجحة كلاً في مكانه، ولكن الخلل في انتشار الفساد وعدم التزام القائمين على الاقتصاد في العراق من السياسيين والتكنوقراط بهذه التصورات والحلول التي وضعها البنك الدولي في تقاريره التي صدرت في الأعوام 2006 و2012 و2020.
- مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية
- أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاً