ليونيد بيرشيدسكي
TT

الإغلاق سيكون أكثر صرامة إذا حكمتنا الآلات

كنا نفضل الذهاب لمشاهدة أوركسترا فيلهارموني في برلين أنا وأسرتي، ولكن الحكومة قد أمرت بإغلاقها كجزء من سياستها لمكافحة فيروس كورونا المستجد. ومع ذلك، اتضح أن إغلاق الكنائس في ألمانيا كان خطوة بعيدة التنفيذ للغاية بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم في البلاد. ولقد دعت المستشارة أنجيلا ميركل رفاقها المشرعين إلى كلمة العلم في خطاب ديسمبر (كانون الأول) الذي لقي إشادة واسعة، وبرغم أنها فيزيائية من واقع دراستها الجامعية، إلا أنها كريمة أحد رجال الدين كذلك.
لقد جعلتني تلك التجربة أفكر في المنهج التكنوقراطي للتعامل مع الوباء الراهن، وهو منهج الاستماع إلى صوت العلم. هل سوف يكون هناك منطق أكثر في السياسات الحاكمة إن جرت صياغتها بواسطة الذكاء الصناعي مع إمكانية الوصول إلى كافة البيانات المتاحة؟ وهل سوف تتسم قواعد الإغلاق العامة بالمزيد من المنطقية إذا تُركت مهمة الإقلال من أعداد الوفيات إلى آلة من الآلات التي لا تتحكم فيها العاطفة، أو الخوف، أو الفشل، أو المبادئ السياسية، أو المعتقدات الدينية، أو الجشع، أو الأنانية - إيجازاً للقول، بكل ما يجعل منا كبشر مختلفين عن الآلات؟
والإجابة هي أن قرارات الإغلاق سوف تكون أكثر تقييداً وصرامة في تلك الحالة. ويرجع ذلك إلى أن البيانات الواردة عن الموجة الأولى من شيوع الوباء، تشير إلى فاعلية الحد من التواصلات بكل طريقة ممكنة. ولن تكون الاعتبارات الاقتصادية من العوامل المخففة في ذلك: رغم أن الحدس الأولي يقول إنه عندما يتدهور الاقتصاد، يميل المزيد من الناس إلى الوفاة، غير أن البيانات المسجلة لا تثبت ذلك على إطلاقه.
إن الاستماع إلى صوت العلم أثناء جائحة الوباء الراهنة يعني تحديد هدف سياسي بسيط: الحيلولة دون وقوع أكبر عدد ممكن من الوفيات بين الناس. والمنهج التكنوقراطي الخالص صوب تحقيق هذا الهدف يعني وضع نموذج معقد من شأنه العمل على تقييم البيانات المتاحة بشأن كل تدبير من التدابير التي جرى تجربتها على مستوى العالم منذ بدء انتشار الوباء قبل عام. ثم يتعيَّن الالتزام بتوصيات النموذج المذكور بصفة حرفية ومن دون مناقشة. فهل هناك أحد يعارض إنقاذ الأرواح؟
وبناء على تلك البيانات، يقرر النموذج فرض أقسى القيود الممكنة.
في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قام الدكتور نيلس هوغ، والدكتور لوكاس غيرهوفر، والدكتور أليساندرو لوندي من الجامعة الطبية في فيينا بتصنيف مدى فعالية التدخلات الحكومية المختلفة في مكافحة الوباء باستخدام عدة طرق إحصائية متنوعة. ولقد خلصوا إلى أن أفضل التدابير الناجحة كانت حظر التجول، والإغلاق العام، وغلق الأماكن العامة التي تشهد تجمعات الناس بأعداد صغيرة أو كبيرة، وتقييد تلك التجمعات لفترة طويلة من الزمن. ويشتمل ذلك على التجمعات الصغيرة (إغلاق المتاجر، والمطاعم، والتجمعات التي تتألف من 50 شخصاً أو أقل، ومباشرة العمل الإلزامي من المنازل، وما شابه ذلك)، وإغلاق المؤسسات التعليمية. وخلصت دراسات أخرى معنية إلى أن بعض الإجراءات المتبعة الأكثر تقييداً كانت هي الأكثر فاعلية من زاوية إنقاذ الأرواح.
رغم أن أغلب السياسيين يرون أن قراراتهم ذات الصلة بمكافحة فيروس كورونا هي عبارة عن مقايضة بين المحافظة على انخفاض معدلات الإصابة مع الحيلولة دون انهيار الشركات والأعمال، إلا أنَّ هذه ليست هي الطريقة التي يمكن أن يتبعها النموذج التكنوقراطي القائم على البيانات. كتبت جوان باليستر من معهد برشلونة للصحة العالمية في دراسة بحثية عام 2019 تقول إن البلدان التي تضررت بشدة من الركود الاقتصادي العظيم شهدت أيضاً أكبر انخفاض مسجل في معدل الوفيات. إذ تميل الأوضاع الاقتصادية الكئيبة إلى الإقلال من الإرهاق المرتبط بالعمل، واستخدام المواد الضارة ذات الصلة، والتقليل من الوفيات الناجمة عن حوادث المرور، وحوادث العمل، وتقليل التلوث البيئي المصاحب. ووفقاً إلى السيدة باليستر (وبعض الدراسات السابقة)، فإن هذه التأثيرات قد تحقق التوازن بصورة جيدة مع الاتجاه المعاكس: في حين أن البطالة تزيد من مخاطر الإقدام على الانتحار وارتكاب الجرائم، إلا أن التأثير الإجمالي للركود العظيم الأخير على معدلات الوفيات ليس بالتأثير الكبير.
وبطبيعة الحال، ليس من الضرورة للنموذج الذي يفرض أقسى القيود على التواصل مع الإقلال من آثار الضائقة الاقتصادية المصاحبة أن يكون صحيحاً بالكلية. فإن البيانات الواردة عن عمليات الإغلاق القاسية تتعلق بالموجة الأولى الشديدة للوباء، وخلال الشهور الأخيرة، لم تتسم القيود بالسرعة الكافية في الحد من معدلات الإصابة بالعدوى أو الوفيات، كما كانت عليه الأحوال في الشهور الأولى من عام 2020.
علاوة على ذلك، قد تتجاوز الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الوباء تلك التي نتجت عن الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وربما لا تكون البيانات المتاحة بشأن اتجاهات الوفيات قابلة للتطبيق بصورة مباشرة. بعبارة أخرى، سوف تخضع القرارات التي تتخذها الآلات إلى ما يُعرف بنموذج الانحراف. غير أن تعديل ذلك النموذج بما يتفق والبيئة المتغيرة ربما لن يسفر عن انتكاسات كبيرة في السياسات، وذلك بسبب أن الإجراءات الأكثر صرامة تبدو وأنها تعمل بصورة أفضل من الإجراءات المعتدلة في الأوقات العصيبة، مثل البرامج التعليمية، وحتى برامج تتبع حالات الإصابة بالعدوى.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»