الناتج المحلي الإجمالي هو أكثر المؤشرات استخداماً لقياس الأداء الاقتصادي للدول، ممثلاً القيمة الإجمالية النقدية لجميع السلع والخدمات المنتجة داخل حدود الدولة خلال السنة، وتقليدياً، فإن الناتج المحلي الإجمالي يشمل الأنشطة الاقتصادية القانونية والقابلة للملاحظة فقط، مثل التصنيع والزراعة والخدمات، ولكن بعض الدول في السنوات الأخيرة أصبحت تدرج الأنشطة غير القانونية مثل تجارة المخدرات والبغاء ضمن ناتجها المحلي الإجمالي، فلماذا حدث هذا التحول المفاجئ؟ وما هو تبرير إضافته ضمن هذا المؤشر المهم والأساسي؟
حينما طُور مفهوم الناتج المحلي الإجمالي في ثلاثينيات القرن الماضي، كان الهدف منه تقديم وسيلة لحجم وهيكل النشاط الاقتصادي، وأصبح فيما بعد حجر الأساس لقياس الاقتصاد على مستوى العالم، ومع مرور الوقت، وضعت منظمات دولية مثل الأمم المتحدة معايير، مثل نظام الحسابات القومية (SNA)، لضمان اتساق حسابات الناتج المحلي الإجمالي بين الدول، مما يتيح إجراء مقارنات أفضل بينها، وفي عام 2008، وصّى نظام الحسابات القومية بإدراج الأنشطة غير القانونية للخروج بمقياس أكثر شمولية للنشاط الاقتصادي، وكان المبرر أن بعض هذه الأنشطة قانونية في بعض الدول، والبعض الآخر يضيف هذه الأنشطة حتى مع تحريمها، وهو ما يشوّه المقارنات بين الدول.
وقد كانت دول مثل المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وآيرلندا في طليعة المتبعين لهذا المقترح، حيث تقدر المملكة المتحدة أن تضمين مبيعات المخدرات غير القانونية والبغاء يضيف نحو 65 مليار جنيه إسترليني إلى ناتجها المحلي الإجمالي، وهو ما مثل نحو 5 في المائة من إجمالي الاقتصاد، وبالمثل، تتوقع إيطاليا أن يضيف اقتصادها غير الرسمي 1.3 نقطة مئوية إلى ناتجها المحلي الإجمالي، وهي التي تعاني بالأصل من ضعف دقة تقييم نشاطها الاقتصادي بسبب كثرة أنشطة اقتصادها الأسود، التي تتم خارج الإطار المحاسبي للدولة.
وبغض النظر عن الاتفاق مع تضمين هذه الأنشطة من عدمه، فإن تضمين الأنشطة غير القانونية في الناتج الإجمالي المحلي يوفر العديد من الفوائد للدول، فهو يتيح تقديم صورة أكثر دقة للاقتصاد، فالأنشطة غير القانونية، على الرغم من كونها محظورة، فإنها تسهم بشكل كبير في النشاط الاقتصادي، وإدراجها يضمن أن تعكس أرقام الناتج المحلي الإجمالي الحجم الحقيقي للنشاط الاقتصادي. كذلك فتضمينها - حسب ما اقترحه نظام الحسابات القومية - يسمح بإجراء مقارنات دولية موحدة، وإن كان هذا لم يحدث خلال الـ16 عاماً الماضية بحكم أن غالبية دول العالم لم تتبنّ هذا المقترح.
وأهم ما اتهمت به الدول المتبنية لهذا المقترح هو أن تضمين هذه الأنشطة يمكن أن يحسن أرقام الناتج المحلي الإجمالي المرتفعة الناتجة عن هذه الإضافات من نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، مما يعزز التصورات الإيجابية للوضع المالي للدولة ويجذب المزيد من الاستثمارات، وهو أمر قد يكون مضللاً، ويعطي ميزات غير واقعية لبعض الدول التي تنتشر فيها الأنشطة غير القانونية.
وتقود هذه النقطة إلى سلبيات التضمين؛ أولاها الأثر الأخلاقي لتضمين عائدات الأنشطة غير القانونية في الحسابات الوطنية، فمن خلال دمج هذه الأنشطة في الناتج المحلي الإجمالي، تخاطر الحكومات بإعطاء انطباع بأنها تتغاضى عن هذه الممارسات أو تطبيعها، ويمكن أن يقوض ذلك الجهود المبذولة لمكافحة الأسواق غير القانونية والأضرار الاجتماعية المرتبطة بها.
علاوة على ذلك، يمكن للأرقام المرتفعة للناتج المحلي الإجمالي أن تشوّه التصورات حول النمو الاقتصادي والاستقرار، فعلى سبيل المثال، يجادل النقاد في إيطاليا بأن إدراج الاقتصاد غير الرسمي يسمح للحكومة بالتقليل من حجم العجز والدين العام، مما يؤدي إلى شكوك حول مصداقية البيانات الاقتصادية المقدمة، ويمكن أن يؤدي هذا التلاعب إلى تآكل الثقة بين المستثمرين والجمهور، الذين قد يشككون في صحة المؤشرات الاقتصادية المعروضة، والأكثر من ذلك، فإن الحكومة حين تحاول مكافحة الأنشطة غير القانونية، فهي تقلل بنفسها من ناتجها الإجمالي المعلن، وهي بذلك تقع في حالة من تناقض المصالح، بين مصلحتها في النمو الاقتصادي، ومصلحتها في مكافحة الجرائم.
إن إدراج الأنشطة غير القانونية في حسابات الناتج المحلي الإجمالي خطوة جريئة ومثيرة للجدل على أقل تقدير، فتقييم حجم هذه الأنشطة يشكل تحدياً كبيراً ويخضع للكثير من التقديرات، مثل بيانات الاعتقالات واستهلاك المخدرات وغيرها، مما يصعّب موثوقية بندٍ ماليٍّ هو في الأصل مشكوك به، وعلى الرغم من أن هذا التضمين يوفر نظرة شاملة للنشاط الاقتصادي ويتماشى مع المعايير الدولية، فإنه طرح تساؤلات عن مدى أخلاقيته، والجدوى الفعلية من جعله رسمياً في اقتصاديات الدول، لا سيما أن إضافته بعد الأزمة المالية عام 2008، طرحت تساؤلات عن ارتباطه بالأزمات الاقتصادية ودوره في إضافة نمو مفاجئ وغير حقيقي لاقتصادات بعض الدول.