في وقت مبكر من هذا العام، قرر «الجمهوريون» الفرنسيون، من تيار يمين الوسط، الانتقال إلى مقر جديد. وبعد عقد من الهزائم المحبطة، غادر الحزب مقره إلى آخر أقرب إلى الجمعية الوطنية الفرنسية، أو البرلمان، على أمل أن يسهم هذا الانتقال في تغيير حظوظ الحزب. إلا أن هذا لم يحدث، فقد حمل يونيو (حزيران) معه نتائج كارثية في انتخابات البرلمان الأوروبي، واحتمالية مواجهة المزيد من النتائج الكارثية في انتخابات مفاجئة دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون.
رداً على ذلك، راهن رئيس «حزب الجمهوريين»، إريك سيوتي، بحظوظه مع «التجمع الوطني» الصاعد، الحزب اليميني المتطرف، بقيادة مارين لوبان. إلا أنه أقدم على ذلك دون استشارة قيادات الحزب الأخرى، الذين ظل هذا التحالف لهم أمراً مقيتاً. وعندما حاولوا إقالته من منصبه، لم يكن من سيوتي سوى طرد فريق الموظفين ببساطة، وإغلاق الأبواب. وتعتبر أزمة سيوتي بمثابة رمز لموسم الفوضى السياسية الذي كابده الأوروبيون، العام الماضي. واليوم، أصبحت مثل هذه الانهيارات والانقلابات، القاعدة السائدة. وتجلَّى ذلك في حقيقة أنه في غضون 3 أشهر من توليها منصبها، انهارت الحكومة الفرنسية، رغم ما بذلته من جهود كبيرة لتجميع قواها بعد الانتخابات؛ وسرعان ما لاقت الحكومة الألمانية المصير ذاته. واليوم، مع اقتراب عام 2024 من نهايته، يجد الثنائي المؤسس للاتحاد الأوروبي نفسه في حالة انجراف سياسي. وبالتزامن مع ذلك، عمد اليمين المتطرف المتنامي في أوروبا إلى ترسيخ مكانته. وبالفعل، شهدت الانتخابات الأوروبية، هذا الصيف، أداءً متميزاً لليمين المتطرف في مختلف جنبات الاتحاد. كما أحرز التيار تقدمات كبيرة على المستوى الوطني كذلك. مثلاً، في هولندا، نجح حزب «من أجل الحرية»، بزعامة خيرت فيلدرز، في تشكيل ائتلاف حكومي، بينما تعمَّقت شعبية جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، وصعد حزب «البديل من أجل ألمانيا»، اليميني المتطرف، ليصبح ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد. والآن، يبدو واضحاً أن اليمين المتطرف في أوروبا تجاوز نقطة التطبيع، وأصبح قوة مألوفة داخل الحكومات. فيما يتعلق بأوروبا، يأتي تنامي قوة اليمين المتطرف بمثابة نقطة الذروة لعام من الاضطرابات. وإذا حكمنا اعتماداً على الوضع الاقتصادي المتدهور والفوضى الاجتماعية العامة في القارة، فإن الأمور تتجه حصراً نحو الأسوأ. قبل عقد، قدمت أوروبا وجهاً مختلفاً تماماً للعالم؛ ففي اليونان، كان حزب «سيريزا» اليساري المتطرف، على وشك الصعود إلى السلطة، على ظهر جهود مقاومة التقشف، الذي فرضته ما تُسمى بـ«الترويكا»، أو الثلاثية المؤلفة من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي ومجموعة اليورو. وفي فرنسا، طاردت الرئيس فرنسوا هولاند المنتمي إلى يسار الوسط، العناصر المتمردة في يسار حزبه. وفي بريطانيا، كان النائب الاشتراكي جيريمي كوربين على وشك الوصول إلى زعامة حزب «العمال». اليوم، يبدو كل ذلك وكأنه تاريخ سحيق، فقد خسر «سيريزا»، الذي اضطر في نهاية المطاف إلى تنفيذ إجراءات التقشف التي خاض حملة ضدها، السلطة عام 2019. وضربت صفوفه الانقسامات بعد انتخاب مسؤول سابق في «غولدمان ساكس» زعيماً له. أما كوربين، فقد طرد من الحزب الذي قاده ذات يوم، بينما تعرَّض اليسار الفرنسي للتهميش، جراء ميل ماكرون إلى عقد الصفقات مع اليمين. وفي السياق ذاته، نجد أن «حزب اليسار»، الذي كان ذات يوم منافساً معتبراً لـ«الخضر» و«الديمقراطيين الاجتماعيين» على زعامة اليسار الألماني، يجابه اليوم خطر الاختفاء التام من البرلمان في الانتخابات المقبلة بالبلاد. ولا يمكننا أن نعزو هذا التراجع إلى واحد من قوانين الطبيعة السياسية. الحقيقة أن الكوكبة السياسية الحالية في أوروبا تدين بالكثير لمجموعة من الساسة والمسؤولين، الذين هيمنوا على القارة في العقد الأول من القرن الـ21. وعلى غرار أنجيلا ميركل خلال فترة ولايتها التي استمرت 16 عاماً في منصب مستشارة لألمانيا، كان هؤلاء هم الذين وضعوا القواعد الحاكمة للساحة السياسية الأوروبية، التي عادت اليوم لتطارد صُنَّاع السياسات. على سبيل المثال، كانت استجابتهم لـ«أزمة اليورو» (ويُقصد بها الأزمة المالية الأزلية على ما يبدو التي أعقبت انهيار عام 2008» طَرْحَ مزيج مؤذٍ من الأخلاقية والتكنوقراطية. وفي إطار تعزيز التدابير التقشفية العقابية، زعم يروين دايسيلبلوم (نائب ميركل في رئاسة تجمع غير رسمي لوزراء مالية منطقة اليورو) أن الحكومات المثقلة بالديون في جنوب أوروبا أهدرت أموالها على «المشروبات الكحولية والنساء». ومن جانبه، حذَّر جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، اليونانيين، من أنه «ليست هناك حاجة إلى الانتحار لأنهم يخشون الموت».
وبقيادة ميركل، أصرَّ الساسة في أوروبا على الخضوع للأسواق المالية والآداب الأوروبية، بغَضّ النظر عن العواقب. أما اليوم، فقد أصبحت تكاليف هذا النفور العدواني من التغيير، صارخة الوضوح. عبر العقد ونصف العقد الماضيين، انتقلت مؤشرات النمو على مستوى القارة من مساحة الركود إلى مساحة تبعث على القلق. وفي إطار تحليل حديث للاقتصاد الأوروبي، أطلق ماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق رئيس وزراء إيطاليا السابق، ناقوس الخطر، متأخراً، بخصوص حجم الانحدار الأوروبي: الافتقار إلى الإبداع، وتراجع الإنتاجية، وضعف الأداء الاقتصادي بشكل عام. والآن، يبدو مستقبل القارة الاقتصادي مظلماً بدرجة تستعصي على التصديق. وربما تبدو هذه الصورة قوية أمام بعض القوى الخارجية، لكن عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية أو الشؤون العسكرية أو الاستقلال في مجال الطاقة، تبدو أوروبا أكثر فأكثر دون دفة في عالم يعتمل بالعواصف. ومع اقتراب دونالد ترمب من الرئاسة، ربما تكون الأوقات العصيبة حقاً قد بدأت للتو.
* خدمة «نيويورك تايمز»