عند الحديث عن مشكلات المحتوى العربي على شبكة «الإنترنت»؛ تبرز مشكلة تقلص حجم هذا المحتوى، الذي لا يتعدى 3 في المائة من إجمالي المضامين المُتاحة على الشبكة العالمية، في حين أن الناطقين باللغة العربية يمثلون 7 في المائة من سكان العالم، لكن تلك ليست أخطر المشكلات على أي حال.
وربما تتعلق المشكلة الأبرز بخصوص هذا المحتوى العربي في كونه يميل إلى الضعف والتهافت في الأغلب، ولا يُسهل الوصول إلى المزايا الرائعة والمتنوعة التي ترفدنا بها تلك الشبكة، بينما ييسر التعرض لجوانبها الضارة، والتأثر بتداعياتها السلبية.
ومن بين أكثر مشكلات ذلك المحتوى إثارة للقلق أنه لا يوفر للناطقين باللغة العربية، أو المهتمين بمجالاتها المعرفية، السبل اللازمة للحصول على محتوى موثوق ومتجدد ومُخلص للاشتراطات العلمية.
وربما يكون هذا هو السبب الأكبر في اضطرار قطاعات من الباحثين والتكنوقراط والجمهور الباحث عن مضامين جادة، إلى اللجوء للغات الأجنبية للحصول على المعلومات التي تيسر إنجاز المهام، سواء كانت معرفية أو بحثية أو إخبارية وتحليلية في عديد الأحيان.
لقد أضحت شبكة «الإنترنت» العالمية ركيزة أساسية وإطاراً معلوماتياً لا يمكن الاستغناء عنه لقضاء المصالح بأنواعها كافة، ومع ذلك، فإن تلك الشبكة تبقى بمعزل عن تأثير الدولة الوطنية العربية، باستثناء القدرة على حجب ما تشخصه بوصفه «مضامين أو مواقع ضارة»، وهو أمر بات محل شك كبير أيضاً، بسبب انتشار التقنيات التي تتيح تخطي إجراءات الحظر.
ويمكن القول إن السيادة الوطنية على الفضاء الاتصالي الراهن، وفي القلب منه شبكة «الإنترنت»، تراجعت بقوة، بحيث لم تترك للدولة الوطنية فرصاً للتحكم أو السيطرة على المضامين الرائجة عبرها سوى من خلال إجراءات بناء «العزلة الرقمية»، وهو أمر يقوض آيديولوجيا الشبكة المفترضة القائمة على الحرية والانفتاح وبناء جسور التواصل، ويرتب تكاليف سياسية ومعرفية يصعب تحملها.
ورغم الإقرار بأن ثمة مبادرات وممارسات إيجابية في «الإنترنت» العربي، فإن الميل إلى إنتاج المحتوى المُسطح والمُبتذل والتافه، والتعرض له بإفراط، يُعد سمة رئيسة في هذا المحتوى لا يمكن تجاهلها.
ويمكن القول إن الكثير من المضامين التي تُبث عبر «الإنترنت» العربي لا تساعد المواطنين العرب على تعزيز القدرة على امتلاك الحكم الذاتي العقلاني، وهو أمر أسهم فيه انتشار الشائعات والمعلومات الزائفة، ورفدته مُمكنات «الذكاء الاصطناعي» بقدرات نوعية جديدة في مجالات الفبركة والاختلاق.
لقد كان اللجوء إلى محرك بحث شهير مثل «غوغل»، باللغة العربية، مسألة شبه مضمونة للحصول على معلومات موثوقة أو تدقيق إفادات مُلتبسة، في السنوات الفائتة، أما اليوم، فإن عملية فرز الغث عن السمين عبر هذا المحرك أضحت غاية في الصعوبة، فضلاً عن هيمنة النزعة التجارية، التي أغرقته في الإعلانات وأنشطة اللجان الإلكترونية وآليات الإشهار المدفوعة.
ومن بين أخطر ما فعله المحتوى السائد على «الإنترنت» العربي اليوم أنه تحول إلى آلية لإرساء المكانة، ولأن تلك العملية تجري عبره من خلال منظور الانتشار وحجم التفاعل، فقد منح مكانات لأشخاص ورموز وقضايا غاية في التفاهة والابتذال والابتعاد عن القيمة الحقيقية، فيما أقصى المستحقين باطراد.
ولأن تلك الشبكة التي بُنيت على أفكار الحرية والانفتاح والتواصل وإعطاء الصوت لمن لا صوت له، أضحت فريسة سهلة لأقسى أنواع الاحتكار، عبر تحكم عدد محدود من الفاعلين في المحتوى المُتاح عبرها، فقد بات الجمهور العربي بدوره فريسة أيضاً لنزوعها الاحتكاري، وهو الأمر الذي تمت معاينته بوضوح خلال أحداث الحرب الروسية - الأوكرانية، والحرب الدائرة حالياً في منطقة الشرق الأوسط.
ورغم هذه الإشكاليات الضخمة والمتعددة، فإن الفرص لا تزال سانحة لتحسين موقف العرب على الشبكة، لكن هذه الفرص تحتاج إلى تضافر الجهود بين الحكومات والمُشرعين والمؤسسات والمجتمع المدني والجمهور العربي نفسه.
وسيكون نهوض الجامعات والمؤسسات العلمية بأدوارها الطبيعية في رفد المحتوى على الشبكة بالمزيد من المحتوى الجاد مسألة ضرورية، كما ستكون الحكومات والمشرعون معنيين بالعمل على تشكيل جبهة للتفاوض مع شركات التكنولوجيا الكبرى القائمة على تنظيم المحتوى وبثه، للحد من هيمنتها الاحتكارية، وإخضاعها لمعايير واضحة ومُلزمة لتعزيز المحتوى وضمان توازنه.
وسيكون من المُهم في هذا المجال إطلاق منصات وشبكات اجتماعية عربية، بشروط أكثر رشداً وقابلية للتنظيم من تلك التي يقضي الجمهور العربي عليه جل أوقاته، بكل ما تحمله من مخاطر وتفاهات.
لا يجب أن يكون «الإنترنت» العربي هو ما يُبث على الشبكة باللغة العربية فقط، لكن ينبغي أن يعكس انشغالات وأولويات ومصالح الدولة الوطنية العربية ومواطنيها أيضاً.