حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

المظاهرات تعود إلى لبنان والسلطة في موت سريري

تحركت ساحات الاعتراض والاحتجاج في لبنان مجدداً تحت وطأة الكارثة المعيشية التي يعيشها المواطن في ظل استقالة الدولة من مسؤولياتها وركونها إلى سياسات الإرجاء والتسويف وتجاهل الانهيارين الاقتصادي والسياسي، وغرقها في صراعات أطرافها ومهاتراتهم.
طرابلس، المدينة الأفقر على ساحل البحر المتوسط بحسب دراسات دولية، كانت الحاضنة الطبيعية لعودة اللبنانيين إلى الشارع بعدما بلغت الأمور في عاصمة الشمال حداً لا يطاق من العوز الذي يلامس الجوع بالمعنى الحرفي للكلمة، في ظل إغلاق شامل فرضه التفشي الواسع لفيروس «كورونا». وهذا فشل آخر للسلطة التي لم تفلح في وضع خطة لاحتواء مرض يحصد يومياً حيوات العشرات ويدمّر صحة الآلاف.
فاقم «كورونا» الأزمة المعيشية وعرّض مئات الآلاف من صغار الكسبة الذين يحصلون على خبزهم بفضل عملهم اليومي، إلى محنة صعبة لم يمرّ على لبنان مثلها منذ مجاعة الحرب العالمية الأولى، أي منذ ما قبل تأسيس «لبنان الكبير» قبل مائة عام. تدّبر لقمة العيش في ظل الإغلاق الإلزامي الآتي بأوامر زجرية وعقوبات مالية من دون أن يترافق مع أي تعويض على المتضررين أو البحث في التخفيف من عبء الإغلاق عليهم، كشف من جهة ثانية معنى انهيار السلطة السياسية بل سذاجة من يتولى أقسامها الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية وعجزه عن رؤية الصورة الأكبر للوضعين في الداخل والخارج، حيث تتعفن جثة لبنان كبلد وسلطة تحت أنظار عالم غير مبالٍ ومشغول بهمومه الممتدة من استيعاب خسائر الوباء، إلى تطويق الأزمات السياسية المتنقلة في أرجاء الكوكب.
فما نشرته «الشرق الأوسط» قبل أيام عن بحث رئاسة الجمهورية في التمديد لميشال عون، وهو ما نفته مصادر القصر الجمهوري، يقول شيئاً واضحاً خلاصته أن لا قدرة عند الجماعة الحاكمة على الإتيان بفكرة جديدة واحدة خارج سياق التمسك ببقاء عون وأنصاره في مواقعهم وحسب. وكل ما عدا ذلك من علاج للكوارث المتعاقبة أو دفع التحقيق في تفجير مرفأ بيروت إلى خواتميه، أمور لا تعني شيئاً يُذكر لهذه المجموعة من المتسلطين ومن يشد أزرهم ويبرر لهم سوء إدارتهم ويمنع إسقاطهم في الشارع كما حصل بعد السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول). ما يعنيهم هو التخلص من اتفاق الطائف وتغيير صيغة الحكم للمجيء بالمزيد من الفاشلين والمرتهنين إلى سدة الحكم.
والتمديد لميشال عون يعني قبل ذلك بقاء مجلس النواب الحالي والتذرع بعدم القدرة على إجراء انتخابات تشريعية. وبذلك يبقي عون ومن يقف وراءه لبنان ورقة تفاوض على طاولة المفاوضات الإيرانية - الأميركية المقبلة، حيث سيؤدي هذا البلد المنكوب دور حارس البرنامج النووي الإيراني. ومنه ستنطلق صواريخ طهران إذا هُددت مصالحها، على ما صرح أكثر من جنرال إيراني.
يجري ذلك وسط تخبط في محاولات احتواء وباء «كورونا» والارتفاع الصاروخي لأسعار السلع الأساسية. وقررت الحكومة قبل أشهر أن تدعم السلع هذه من احتياط مصرف لبنان بالعملات الصعبة. وتتردد مرة في الشهر ربما، أنباء عن اقتراب الاحتياط المذكور من النضوب واتجاه حكومة تصريف الأعمال تارة إلى «ترشيد» الدعم وتارة أخرى إلى إلغائه، ما يهدد بحرمان شرائح عريضة من اللبنانيين من الغذاء. وفي الوقت الذي تضع وسائل الإعلام الموالية لأحزاب السلطة المواطن في صورة عن انعدام الخيارات بين نضوب الاحتياط الإلزامي للمصرف المركزي وبين استمرار الدعم لفترة وجيزة مقبلة، تتجاهل الدولة وأجهزتها الجمركية والأمنية فضيحة مرور مئات الشاحنات يومياً عبر طرق التهريب إلى سوريا، حيث تضخ جهات مجهولة - معلومة الوقود والغذاء والعملة الصعبة في أوردة حليفها نظام بشار الأسد. وعلى الطريقة اللبنانية سيئة الذكر، يجري تجاهل التهريب الواسع الذي بات يشبه المؤسسات والحماية العسكرية، إلى نظام دمشق والتركيز على الخسائر التي يرتبها دعم السلع الأساسية على الخزينة العامة من دون أن يجرؤ المسؤولون المتواطئون والفاسدون إلى الإشارة إلى التناقض البديهي بين تحمل تكلفة إسناد بشار الأسد وبين آثار ذلك على الاقتصاد المحلي المنهار.
أما إذا نزل مواطن باع صباحاً آخر ما لديه من أدوات كهربائية مقابل القليل من الخبز والزيت، إلى الشارع للاحتجاج على جوع أطفاله ويأسه وانسداد المستقبل أمامه، فسرعان ما يجد السلطة بمدرعاتها ووسائل إعلامها جاهزة لقمعه وتصنيفه كمخل بالأمن وكعميل لجهات أجنبية أو كمتطرف «داعشي». في المقابل، بلغ هزال هذه السلطة حداً يمنعها من اتفاق أطرافها على تنظيم آلية النهب وتأطيره على ما فعلت في الأعوام الثلاثين الماضية.
عندها قد يبدو من المبرر مطالبة السلطة بأحزابها ومكوناتها الإجرامية المختلفة بالاتفاق على الحصص في الفساد والسرقة علّ ذلك يخفف من مآسي لبنانيين يستيقظون كل يوم على كابوس جديد. بيد أن هذا الطلب سيصطدم بواقع أن السلطة القائمة في حالة موت دماغي لم تعد معها بقادرة على إنقاذ نفسها ولو عن طريق ممارسة المزيد من الكذب والخداع المعتادين.