فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

زمن المراجعة الدينية العالمية

لم يكن الهجوم على مجلة «شارلي إيبدو» بداية للإرهاب، وإنما هو التتويج لمسار طويل من التنظير والممارسة للعنف في أصقاع الأرض، فالحادثة ليست عرَضا بقدر ما هي ظاهرة تعبّر عن مرض، لقد كانت ردود الفعل على هذه الحادثة ضعيفة لدى من يسمّون بالنخب في المنطقة، ذلك أن النزعات الثاوية في الاتجاهات والتيارات اشتغلت من جديد، فبدأت عرائض التفسيرات ذات البعد التآمري لدى بعض المثقفين ذوي التكوين اليساري أو التنشئة الإخوانية أو النزعة القومية القديمة التي تعتبر الآخر شرا محضا، من هنا كان الالتقاء بين خطابات تعتبر الغرب مجرد حالة إمبريالية استبدادية، وهي نفس الثيمة التي تستخدمها «القاعدة» باتجاه الغرب «الصليبي» غير أن قائل العبارة الأولى مثقف بنظّارته المقعّرة، والأخير ملثم برنامجه واضح ميدانيا في مجال الإرهاب وضوح الشمس.
كان الفيلسوف كارل ماركس يعتبر أن أي طريق للتقدم يبدأ من خلال «النقد الديني»، ذلك أن الغايات التي تنثر في الواقع على الجموع ضمن المعاني الدينية تعيد تشكيلهم ضمن صيغ طبقية محددة، وتلك الصيغ ذاتها هي التي تصهر الناس ضمن مساراتهم الاقتصادية وتطقّمهم ضمن مجالات أعمالهم، وتشلّهم أيضا لتجعلهم خاضعين لتقريع موحّد ظاهرهُ الدين وباطِنه الغاية الاقتصادية والهيمنة السياسية، بينما ماكس فيبر اعتبر أن «عقلنة المجتمعات والمؤسسات» هي مدخل أي مشروع من أجل «نزع حالة السحر عن العالم» وعليه يمكن إدراك الواقع بحقائقه وموضوعاته العادية.
منذ الثلاثينات من القرن العشرين بدأت المراجعات النقدية لدى العرب من خلال ما عرف بـ«إعادة القراءة» للكثير من شؤون التاريخ والفكر والتراث المتصل بالعروبة أو بالشأن الإسلامي. طوال قرنٍ كامل امتدّ هذا الجهد، نتذكر ما قدّمه أحمد أمين مبكّرا، ومرورا بالأربعينات والخمسينات لدى عبد الله القصيمي وإلى أدونيس بالإضافة إلى أيقونة طه حسين بوصفه الملهم لمشروع «الإعادة» الحيوي، وبذات المسار سالت إسهامات سلامة موسى والعقّاد، إلى انفجار النقد في زمن نصر أبو زيد، وزكي نجيب محمود، وبدوي، وإسهامات المغاربة الاستثنائية في تلك الإعادة ممثلة بطرح أركون تحديدا بوصفه صاحب أهم ورشة مفهومية فلسفية أخضعت التراث ضمن أدواته في التأسيس لـ«الإسلاميات التطبيقية»، وكذلك العروي، والجابري، وعبد السلام بنعبد العالي، وهشام جعيط، وعبد الوهاب المؤدب الذي رحل قبل شهرين، والذي كتب تحديدا مؤلفا مهما بعنوان «أوهام الإسلام السياسي» طبع بالفرنسية عام 2001.
لا يزال الشغّيلة في الفلسفة بالعالم العربي عاجزين - موضوعيا - عن تجاوز «إعادة القراءة» التي بدأت منذ قرن تقريبا، وآية ذلك أن منظّمات فلسفية مهمة مثل «مؤمنون بلا حدود» ومقرّها الرباط لا يمر شهر أو أقل إلا وتطرح موضوعاتٍ تتصل بالإعادة تلك في مجالات التأويل الديني، رغم اهتمامها الفلسفي الأساسي. أحداث كثيرة جعلت من الدين حاضرا في المجالات الفلسفية إلى درجة جعلت فيلسوفا ألمانيا بقيمة هابرماس يتدخل على الخط اللاهوتي في مساهماته وحواراته.
هناك اهتمام استثنائي في البحث عن المشكل الديني في ثنايا النص الفلسفي، وفي منظّمة «مؤمنون بلا حدود» هناك أكثر من محاضرة بهذا المجال مثل ما ألقاه فتحي المسكيني (وهو مترجم كتاب «الدين في حدود مجرد العقل» لكانط) في محاضرته «كانط والإسلام») وكذلك محاضرة السيد ولد أباه «هابرماس والمنعرج اللاهوتي»، ثم الترجمات لمؤلفاتٍ تتعلق بتحليلات الفلاسفة للإسلام؛ خذ مثلا كتاب «علم الاجتماع والإسلام - دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر» لبراين تيرنر، أما التوجه نحو ترجمة ما يعنى فلسفيا بالشأن الديني نقرأ كتاب «قوة الدين في المجال العام» من تأليف هابرماس، وتشارلز تيلر، وآخرين، هذا فضلا عن مئات الكتب الأخرى ضمن هذا السياق.
لقد أدّت الظواهر «المحرجة» التي أفرزتها التأويلات الدينية إلى حديث دولي حول الإسلام، هناك تدخل دبلوماسي لتوصيفات فكرية على النحو الذي حدث تجاه تنظيم داعش حيث تدخّل وزير الخارجية الأميركي ليصحح هذه التسمية باعتبارها ظالمة للمسلمين المعتدلين وهم الأغلبية كما يقول، ثم تدخل الرئيس الفرنسي هولاند وفريقه لوصف هذا التنظيم بـ«الدولة الـ(لا) إسلامية» بمعنى تنقية الإسلام من هذه الصرعة الدموية التي ضربت العالم عن آخره. مثل هذا التدخل الدبلوماسي هو ذروة التعبير عن الخلل الذي نعاني منه في سبيل استئناف حالة أكثر جدية وصرامة ووضوحا من أجل تصحيح مسار «إعادة القراءة» والتأويل والتفسير والتصحيح والتشريح، لأن كل هذه الأقوال عبارة عن إفصاح مضمر لإحراج ما «كامن» لا يمكن لأحدٍ أن يتحدث عنه بوضوح وصراحة.
عالم الفيزياء الحائز جائزة نوبل ستيفن واينبرغ في حوارٍ معه على شاشة «BBC» تعجب من نفسه لأنه يقضي وقتا «أكثر من اللازم» في القراءة حول المسألة الدينية بشقيها التشريعي والوجودي، وبخاصة المسيحية واليهودية والإسلام، وكان يستنكر تدخل الساسة في الموضوع الفكري حول المسؤولية الدينية عن هذه الحادثة أو تلك، ويضرب مثلا بجورج بوش (الابن) الذي بدا في بعض خطاباته وكأنه يخطب من منبرٍ في القاهرة أو أنقرة، رأى واينبرغ أن الوقت الذي يجب أن يقضيه في متابعة العلوم الفيزيائية وتقنية «الدفاع الصاروخي»، أو هوايته في متابعة الدراسات ذات البعد اللغوي «البنائي» كل ذلك الوقت صار يصرفه على متابعة الموضوع الديني، وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول).
كل هذه الحالة من الاضطرابات الموجودة والتي تتغذى على المعنى الديني، وكل الجماعات والمنظّمات الإرهابية التي تضرب في الشرق والغرب لم تؤسس – كما يدّعي أهل التبشير وعشّاق الأحلام - إلى توجه (الكفرة) للبحث عن الإسلام، لقد طرحت أكذوبة كبرى بعد أحداث سبتمبر حين قالوا: لقد أصبح هناك إقبال كبير على الإسلام، وهي من ضمن أقاويل منظّمات ذات بعد آيديولوجي حركي مثل منظمة «كير» الإسلامية (المجرّمة في الإمارات) والتي تتبع للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
الإرهاب لا يمكنه أن يصنع دعاية حسنة للإسلام، وهذا الإحراج الدموي «داعش» ليس إلا بلاء على المسلمين جميعا ذلك أنهم أمام اختبار مجتمعي دولي، كيف خرج منكم هؤلاء؟!
لا مفرّ من إعادة القراءة بشكل منظّم وتدعم هذه المشاريع من قبل الدول المعتدلة وأخصّ بالذكر «الملَكيات العربية» ذلك أنها الأنظمة القادرة على تغيير وسوس المجتمعات. لقد كان الملوك في أوروبا هم حاضنة الفلاسفة وكثير من أولئك مهروا مقدمات كتبهم التي غيّرت البشرية بإهداءاتٍ إلى الملوك وكانت تربطهم علاقات جيدة ومتفاوتة بالبلاط الملكي، وكانوا يعرّفون هيغل بمشرّع النظام الملكي البروسي.
مثل المشاريع الكبرى التي تدعم من الأنظمة المستقرة هي ما يمكنها أن تجسّد اجتماعيا بغية البدء بأسس التصحيح الديني وتغيير المفاهيم ووضع قراءات جديدة تكون فعّالة لإنقاذ الإنسان بالعالم من جور البطش وثقافات الدماء.