د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

هل هناك اختيار آخر؟

أرجو من القارئ الكريم ألا يتعجل في البحث عن فحوى السؤال، أو البحث عن إجابة عليه، فالمقترب هنا سوف يكون فيه تعقيد ضرورة التعامل مع مشاكل الأمة المستعصية. نقطة البداية جاءت في فيلم سينمائي قديم سمي باسم سفينة بحرية كبيرة للركاب من أصحاب المال والجاه الذين يتجولون في البحار للسياحة والمتعة. الاسم «بوسايدون» الذي هو أحد آلهة الإغريق القدامى، ويبدأ بينما الأسماء الأولية تتوالى حين يأتي صوت قسيس محاضر يقول للمؤمنين المتابعين الخاشعين أن «القدير» مشغول للغاية بما عليه أن يقوم به لإدارة الكون الذي لا نهاية له. الفكرة تتوالى أن رجل الدين يسأل مستمعيه أن يعتمدوا على أنفسهم، لأن الله جل وعلت قدرته وضع فينا عقلاً يدفع ما فينا من قدرات ساعة المواجهات الصعبة. القصة بعد ذلك تتوالى لتطبيق النصيحة التي جاءت في الجملة الأولى، حينما علت موجة عاتية قلبت السفينة رأساً على عقب، وبات على الركاب المرفهين أن يعتمدوا على أنفسهم للنجاة من موت قريب. مثل ذلك هو المطروح على قراء المقال من العرب في أعقاب شهور طويلة من النقاشات والحوارات حول عما إذا كان الرئيس دونالد ترمب، سوف يبقى في البيت الأبيض أم لا، خصوصاً وهو الرجل الذي يقف إلى جانبنا في مواجهة التعنت والعدوان الإيراني، وهو الذي شهد شهادة صادقة فيما يتعلق بالنزاع المصري الإثيوبي بخصوص مياه النيل. وحينما بدا أن جو بايدن الديمقراطي لم يعد فقط منافساً للرئيس للجمهوري، وإنما يقترب في الانتخابات من سدة الرئاسة، جرى نوع من إنكار ما يجري، مع حالة من الفقدان لرئيس سرعان ما فقد التصويت، وتفرغ للمقاومة القانونية، حتى جاء قضاء الله، وأصبحت النتيجة كما نعرفها، حيث فاز بايدن، وأصبحت المسألة متى يصل إلى البيت الأبيض؟
المؤكد أنه لا أحد ينكر الأهمية المحورية للولايات المتحدة في العالم وفي منطقتنا؛ ولكن كما قال القسيس في «بوسايدون» أن القدير مشغول للغاية، وهو ليس كذلك الآن فقط، وإنما منذ وقت طويل. فالحقيقة هي أن الولايات المتحدة وصلت إلى قمة نفوذها وقدراتها في العالم منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وما أعقبهما من انتصار في حرب الخليج، حينما جاءت إلى المنطقة وخرجت بعد تحرير الكويت، وفي أعقابها عقدت مؤتمر مدريد لحل مشكلة الإقليم الأزلية: الصراع العربي الإسرائيلي. عقدان من الزمان بعد ذلك بلغت فيهما واشنطن قمة الدنيا، وهي تقيم نظاماً عالمياً قائماً على القطبية الأحادية الأميركية من ناحية، و«العولمة» كنمط في التفاعلات ممتدة من غرب الدنيا حيث الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية إلى شرقها، حيث يوجد كل شيء آخر. ولكن الولايات المتحدة خرجت بعد عشرين عاماً من التورط العالمي بخسارة مادية مباشرة قدرها سبعة تريليونات من الدولارات في معارك العراق وأفغانستان، وفوقهما إرهاب عالمي لا يستثني لا نيويورك ولا واشنطن ولا بوسطن ولا لندن ولا باريس. الحقيقة أن ترمب لم يكن الرجل الذي قرر الانسحاب من الشرق الأوسط فقد كان ذلك قرار أوباما، وإنما أضاف الرجل بقية العالم، وتعود أميركا الواقعة بين محيطين لكي تكون «عظيمة» مرة أخرى. والحقيقة الأخرى أنه لا يوجد ما يشير إلى أن بايدن سوف يكون مختلفاً عن ذلك كثيراً، وهو الرجل الذي يريد توحيد أميركا أولاً من المحيط إلى المحيط؛ وثانياً إذا ما كان هناك فائض قدرة إعادة الحيوية إلى التحالف الغربي «الناتو» الذي خرجت فيه بريطانيا من الجناح الاقتصادي للتحالف في الاتحاد الأوروبي، ووقفت فيه تركيا تهدد وتعربد إزاء اليونان وقبرص وشرق البحر المتوسط.
«القدير سوف يكون مشغولاً للغاية» كما كان في الحقيقة دائماً، وما على البشر إلا الاعتماد على أنفسهم بما حباهم الله من قدرات خشنة وناعمة، وعقول قادرة على الاختيار والترجيح، حيث لا يوجد أبداً خيار واحد إزاء القضايا المعقدة. هنا نقترب من عنوان المقال: هل يوجد اختيار آخر غير انتظار ما سوف تفضي إليه الانتخابات الأميركية، وتوازنات اليمين واليسار والمعتدلين والمتطرفين. والإجابة هي بالتأكيد نعم، وأن الاعتماد على أنفسنا هو اختيار واجب البحث والتقدير، خصوصاً أن لدينا تجربة غنية من اللحظات الصعبة التي كان فيها التعاون الإقليمي العربي كافياً للتعامل مع أزمات معقدة بطريقة مجزية استراتيجياً واقتصادياً. هل نحتاج استعادة لتجربتنا بعد الهزيمة الكبرى في عام 1967 عندما جاءت العودة من خلال العون العربي لمصر، وشن حرب الاستنزاف، ثم حرب 1973. في هذه الأخيرة كانت سوريا والسعودية من كانا على علم بالنوايا المصرية، ولم يستشر أحد لا الاتحاد السوفياتي في شن الحرب، ولا استأذنت المملكة العربية السعودية وبقية الأشقاء في إشهار سلاح النفط من الولايات المتحدة. كانت القرارات كلها عربية خالصة. نعم هناك نصف قرن مضى على أيام مجيدة، ولكنها لم تكن هذه، لا آخر الأيام المجيدة ولا أولها؛ وعندما نحسب قدراتنا اليوم، ورغم جميع الكوارث التي حلت بالأمة خلال العقد المنصرم، فإن الأمة الآن أكثر قدرة بفعل الإصلاحات الجارية من أي وقت مضى. الأمة الآن أكثر تعليماً، وأقوى تسليحاً، بل وهي أكثر معرفة لبعضها البعض بفعل تكنولوجيا التواصل وحركة العمالة والاستثمار.
مرة أخرى، فليس الهدف من هذا المقال هو التقليل لا من قيمة الولايات المتحدة ولا النظام الدولي، بما فيه من قوى عظمى وكبرى ومتوسطة؛ وإنما تعظيم قدراتنا في حماية أمننا القومي وحل معضلات منطقة أعيتها الثورات والانفجارات والصراعات، وطمع فيها الأقربون والأبعدون. وظيفة الدولة الوطنية العربية في عالم اليوم أن تقوم بما قامت به الدولة في نظم إقليمية أخرى من بناء تحالفات وائتلافات تعدل موازين القوى، وتقيم رادعاً إزاء من طغى وتجبر في الوقت الذي تطرح فيه مشروعاً إقليمياً يقوم على التعاون والسلام بمعايير الحاضر والتطور الإنساني، وليس بالعودة إلى الماضي بما فيها من شعارات. هذه الموازنة بين الردع والمشروع داخل الإقليم هي الخيار الآخر الذي يخلصنا من الانتظار الثقيل لنتائج انتخابات تجري فيما وراء المحيط الأطلنطي. في الوقت الراهن توجد إرهاصات لهذا الاختيار بعضها يدور حول الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط، والمنطقة الأمنية في البحر الأحمر، وتخطيط الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة للدول وتقودها إلى حيث القدرات والثروات. ما نحتاجه هو قدر أعلى من الثقة، وتجاوز المنافسات ضيقة الأفق، وتصرف الدول الوطنية كما ينبغي لهذه الدول من تعريف بالمصالح الوطنية، وتقدير للقدرات المحلية، وسعي نحو الترابط الذي لا تلعب بأعصابه وسائل التواصل الاجتماعي أو شائعات أقدار دول أخرى. أميركا غرقت بين محيطين، وروسيا ضاعت في ثلوج مساحتها الشائعة، والصين لا تعرف عما إذا كان عليها أن تتصرف كدولة عظمى أو كدولة من دول العالم الثالث، ونحن ليس أمامنا إلا الاعتماد على أنفسنا.