مالك القعقور
TT

أين لبنان في «حرب الغاز»؟

برزت أمس (الأحد) إشارة ثانية إلى احتمال تنفيس الضغط الاقتصادي والمالي الذي يتعرض له لبنان منذ نحو سنة، وهي متعلقة باحتمال إتمام عملية ترسيم الحدود الغازية - البحرية مع إسرائيل.
الإشارة الأولى أطلقها رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الذي يتولى مفاوضات ترسيم الحدود عبر الوسيط الأميركي، في 18 أغسطس (آب) الماضي، بقوله إن الأمور وصلت إلى خواتيهما وإن لبنان يتنظر رداً من إسرائيل. لكن الرد لم يحمله مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شنكر، بل نشره موقع «واللا» الإسرائيلي الذي نقل عن مصادر سياسية في واشنطن وتل أبيب أنها تتوقع مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل بشأن احتياطيات الغاز في البحر المتوسط خلال الأشهر المقبلة، وستكون الأولى منذ 30 عاماً في حال حدثت.
ربما لا يدري كثير من اللبنانيين الغارقين في تفاصيل المماحكات السياسية و«حقوق الطوائف»، أن بعض أسباب الأزمة التي يتعرض لها بلدهم يتعلق بـ«حرب الغاز»، وتحديداً مسألة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل التي جربت طرقاً شتى للضغط على لبنان، بدءاً من محاولات التلاعب بـ«الخط الأزرق» الحدودي البري الذي رسمته الأمم المتحدة غداة الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وصولاً إلى العقوبات الأميركية الاقتصادية على كيانات ومؤسسات لبنانية، بدأت تظهر مفاعيلها مع تفليس «بنك جمال» العام الماضي، وما تلا ذلك من ارتفاع مخيف للدولار الأميركي وغرق أكثر من نصف اللبنانيين تحت الخط الفقر والحبل على الجرار.
قد لا يبدو لبنان أساسياً في «حرب الغاز» المستعرة منذ أكثر من 20 عاماً بين أوروبا وروسيا بشكل أساسي، خصوصاً أن الغاز يعد حتى الآن من أفضل مصادر الطاقة وأرخصها وأكثرها أمناً على الإنسان والمناخ، مقابل الوقود الأحفري الذي ثبت أن الكربون الناتج عن حرقه هو المتسبب بالاحتباس الحراري، وأن للطاقة النووية مخاطر كارثية نموذجها كارثة «تشرنوبيل» في العام 1986، إضافة إلى صعوبة التخلص من نفاياتها المشعة. وكذلك فإن مصادر الطاقة البديلة كالرياح والطاقة الشمسية، لا تزال مرتفعة التكاليف.
فالدول الكبرى الصناعية تسدد أثماناً غير قليلة نتيجة الاحتباس الحراري، إذ تقدر كلفة معالجة طن الكربون في الجو بنحو 100 ألف دولار، وتعهد بعضها خفض درجة حرارة الكوكب، والاستجابة لمطلب الأمم المتحدة بخفض انبعاثات غازات الدفيئة العالمية بنسبة 7 في المائة كل عام على مدار العقد المقبل حتى تسير على الطريق الصحيح في إبقاء ارتفاع درجات الحرارة دون مستوى 1.5 درجة مئوية. 
أوروبا التي تعدّ من أكبر مستهلكي الغاز في العالم، يصلها الغاز من مصادر عدة أبرزها اثنان: خط روسي يأتي من سيبيريا عبر أوكرانيا، وخط يأتي من الجزائر. وتستأثر روسياً بـ70% من الغاز الآتي بالأنابيب والجزائر 30%. أما البقية فتأتي عبر ناقلات بالبحر من الخليج العربي. بعد «الثورة البرتقالية» في 2005، تسبب نزاع روسي - أوكراني بحرمان أوروبا من الغاز الروسي لمدة أسبوعين، ما عجّل السعي الأوروبي إلى مصدر ثانٍ. وكان الخيار الأول مشروع خط سمي «نابوكو» من كازاخستان إلى النمسا في 2008، عبر بحر قزوين فتركيا. إلا أن الروسي أحبط المشروع في مهده، إذ نال حكماً دولياً بعدم أحقية التصرف المفرد ببحر قزوين المغلق، وبشراء مخزون كازاخستان حتى 2020. 
عمد الأوروبيون إلى الخطة البديلة وهي مد خط من قطر، وهنا كانت العقدة سوريا حليفة الروس. جاء «الربيع العربي» في 2011، ووصل إلى سوريا حيث تعسكرت الثورة، وكاد نظامها يطاح به غير مرة، حتى قرر الروسي أن يأتي شخصياً إلى سوريا ويعزز أقدامه وقواعده فيها، وكذلك يأخذ التركي بعد حادثة الطائرة في أحضانه ويبدأ بمد خط غاز خاص له وخط آخر إلى ألمانيا عبر البحر الأسود ويعرف بـ«السيل الشمالي الكبير». وفي تلك الفترة، قيل ان الأميركي أخلى يده من المنطقة وتركها للروسي، علماً أن الأميركي لم يكن له في المنطقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلا هدفين: أمن النفط، وأمن إسرائيل. فالأمر الأول بالنسبة إليه حينها لم يعد هدفاً أساسياً، إذ دخل من خلال النفط الصخري نادي المنتجين الكبار وأصبح يريد التصدير إلى أوروبا، وبالتالي من أهدافه عدم وصول أي خط إليها. والثاني أيضاً، لم يعد يشغله كثيراً بعدما تضعضعت معظم الدول المحيطة بإسرائيل وأصبحت أقل قوة منها. 
الهم الأميركي الفعلي في العقود الأخيرة والآتية، هو الصين، وكل جهود واشنطن منصبة على فتح خاصرة لبكين تشغلها وترهقها وتضعفها. وهناك تفاصيل أخرى عن وضع قطر وحقل «بارس» المشترك بينها وبين إيران، والذي أدت ضغوط أميركا إلى خروج «توتال» الفرنسية منه بعد صفقة لإعادة تشغيله عقب توقف دام 12 عاماً.
وهنا، وفي تلك الفترة أيضاً، برز الخيار الثالث وهو غاز شرق المتوسط الذي تشارك فيه مصر وغزة وإسرائيل ولبنان وقبرص واليونان وتركيا وسوريا. وهنا أيضاً تعددت الأهداف والمشكلات وطرق الصراع والتدخلات، ومنها ذهاب التركي إلى ليبيا ومشكلاته مع دول المنطقة. إسرائيل التي لم تعبأ يوماً بقوانين وأعراف دولية ولم تكن تريد السلام مع جيرانها، تريد الآن أن ترسم حدودها المائية مع لبنان وغزة، لأن الأمر متعلق بشركات دولية ستنفق أموالاً طائلة في مشاريع الغاز في المتوسط، وهي غير مستعدة لتضع أموالها في أماكن الصراعات.
بالنسبة إلى لبنان ليس واضحاً كيف وصلت «الأمور إلى خواتيمها» ولا كيف ستجرى مفاوضات مباشرة، ما دام الإيراني مهيمناً عبر ذراعه العسكرية «حزب الله» على القرار اللبناني؟ وهل يسمح الإيراني الذي يدّعي خصومة «الشر» بجناحيه «المطلق» (إسرائيل) و«الأكبر» (أميركا)، لإسرائيل بأن ترسم حدودها وتذهب إلى تصدير الغاز إلى أوروبا وتحقيق عوائد كبيرة، بينما هو عجز مع قطر عن إقناع «توتال» بعدم الانسحاب من «بارس»؟ هل يسمح الروسي لتحالف «شرق المتوسط» (إسرائيل ومصر وقبرص واليونان) أن يستكمل نموه ويمد خطاً إلى أوروبا ليصبح مصدراً لها؟ هل يرضى الأميركي بأن تذهب سدى كل جهوده لدخول السوق الأوروبية مصدراً للغاز؟ نعم، مصلحة لبنان أن يرسم حدوده البحرية، لكن مصلحة شعبه أن يبقى الغاز مخزوناً في بحره حتى تأتي طبقة سياسية أقل فساداً وأكثر سيادة.