مالك القعقور
TT

100 عام و«لم يزل ولد»

يحتفى هذه الأيام ببلوغ لبنان 100 عام، فيما معظم شعبه محطم، كما عاصمته بيروت، وغارق في فقر وقهر وإحباط ولا أمنية له سوى الهجرة، بعدما عجزت الألسنة وهي تلهج من دون فائدة: «لا تدخلنا في تجربة»، و«نجنا من الشرير»!
والتجربة والشرير يبدوان متربصين خلال قرن كامل من تاريخ لبنان الحديث، بهذا البلد الصغير الذي سمي حينها «كبيراً». و100 سنة تعني أن صاحبها بلغ من العمر عتياً، وبالتالي أصبح لديه كثير من الوعي والحكمة والتدبّر. لكن هذه الأمور لا تنطبق على هذا البلد المتكرر العثرات والمطبّات التي يساهم أبناؤه إلى حد كبير في صناعتها مع إصرار غريب على إعادة إنتاج المرارات، بل ينطبق عليه «ولم أزل ولد»، على قول الشاعر سعيد عقل في قصيدة «أمي».
والولد الذي قصده الشاعر الذي يرى لبنان عظيماً منذ فجر التاريخ ما برح يتحدث عن «عظمته» حتى آخر نفس من عمره، يقصد به طفلاً دون سن المراهقة، يلهو ويلعب ويتأرجح... وهذه حال لبنان الذي أظهرت تجارب 100 عام أنه «ولد» في تدبر شؤونه، ولما يبلغ سن «المراهقة»، ولم يعطِ إشارات إلى أنه ذاهب إلى سن الرشد.
قبل 100 عام اختار المستعمر الفرنسي طرحاً من أربعة قدّمتها وفود لبنانية إلى مؤتمر الصلح سنة 1919، وأوكل إلى مندوبه السامي الجنرال غورو أن يطبّقه معلناً «دولة لبنان الكبير» في 1920. حينها صنع الجنرال غورو من جبل لبنان والولايات التي ضمّت إليه، شكل دولة بمفهومها الحديث أي: أرض وشعب وسلطة. والسلطة ليست هي الدولة، كما يفهم منها في اللسان اللبناني، بل هي الجهاز الذي ينتخبه الشعب لإدارة شؤونه، ويفترض أن يكون لفترة محددة، ثم يلي ذلك اختيار آخر، وطبعاً كما يفترض المنطق، اختيار الأفضل فالأفضل لأداء الوظيفة.
لكن الأقانيم الثلاثة للدولة، تلزمها صفة ملازمة لوجودها، ألا وهي «السيادة» التي تشبه المناعة بالنسبة إلى جسم الإنسان. ولئن كان منح السيادة إلى الدولة الوليدة أمراً غير متاح حينها، جاء المولود منقوص المناعة، وكل تدبير في السياسة والأمن والاقتصاد اتّخذه المنتدب، من تاريخ الميلاد في العام 1920 حتى تاريخ الاستقلال في العام 1943، كان يستدعي جرعات من العلاج لكي يتآلف معه جسم المولود الجديد ويتقبّله. ودرج هذا الجسم على هذا المنوال، محتاجاً دائماً إلى من يقدّم له جرعات العلاج مع كل تدبير، ولم يعرف كيف ينمو ويصبح صحيحاً ذا مناعة كاملة.
وهذا المولود ما كاد يبلغ بضع سنين من عمره وقبل أن تعرف «شعوب الشعب اللبناني»، كما يصفها بعض المحللين، كيف تنصهر في شبه بوتقة وطنية واحدة، حتى جاءت النكبة الفلسطينية في العام 1948، وكانت بالفعل نكتبتين أبديتين: نكبة للفلسطينيين، ونكبة للبنانيين. إذ سرعان ما أظهرت النكبة الفلسطينية نقصاً في الانصهار والكلمة الواحدة في لبنان، إضافة إلى النقص الدائم في «السيادة» - المناعة. ولم يزل هذان النقصان قائمين حتى اللحظة، ولم تزل الدولة - وإن توافرت أركانها - كاريكاتورية قائمة على التبعية والإقطاعية والعشائرية والمذهبية والطائفية، ولا يبدو أنها ذاهبة إلى دولة القانون والمؤسسات ذات القرار الواحد داخلياً وخارجياً، حتى تبلغ المائتين وربما أكثر!