رجينا يوسف
صحافية لبنانية
TT

«ماما... انفجرت بيروت»

عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء. رحلوا بسلام بضحكاتهم وأحاديثهم، ورحلت معهم أحلامهم.
في الحروب، كنّا نقيس المسافات وننتقي مناطق قد تكون أكثر أماناً، فنهرع مع بدء القصف من قرية إلى أخرى، تبعد عنا دقائق بالسيارة.
يشتدّ القصف ليلاً ليخف ويتوقّف مع بزوغ الشمس. وبهو الكنيسة كان ملجأنا. الصلوات لن تُبعد عنّا شبح الموت، وكان الناس لا يكفّون عن التضرع إلى الله.
ذكريات الحرب لا تموت، بل تبقى مُختبأة في زاوية من ذاكرتنا. قد تغفو لعشرات السّنين، ولا تخرج بعد وقف إطلاق النّار ومعاهدات السّلام والاستسلام. بيد أنّ وجعها، إن استفاقت، ينخر في أرواحنا بقوة.
الحروب كالأوبئة تتحايل عليها أحياناً، ولا يعني ذلك أنك ستنتصر وتخرج منها حيّاً، لذا تجاهلت الفيروس التّاجي، وهربت من عزلتي إلى شواطئ المياه الدّافئة. وفي 4 أغسطس (آب)، نسيت هاتفي المحمول وخرجت. عدّت لأجد أربعة اتصالات من ابني وفيديو ورسالة صوتية يقول فيها: «ماما انفجرت بيروت، احترقت شوفي الفيديو».
لم يكن حزناً أو دمعة. تسمّرت في مكاني لا أقوى على الحركة، من دون أن أنبَس ببنت شَفَة، وانفجرت غضباً وحقداً على عدوٍ مجهول، وعلى ساسة لبنان وأزلامهم. حرقة قلب على بيروت الأرض ببحرها وشوارعها وعماراتها وبيوتها ومطاعمها. هذه المدينة التي عشقت، انفجرت حارقة بيوتها بمن وما فيها. وفي لحظات توقّفت الحياة واسوّدت السماء وسالت الدّماء. هو صمت الموت فيها، وهي مدينة الحياة انتصرت على الحرب فكيف تهمد وتستسلم بخنوع؟
لم تكن بعد أي وسيلة إعلامية قد ذكرت رقماً واحداً للضحايا. «رقمٌ» بكل ما للكلمة من معنى، فمن يموت اليوم في بلادنا يُنسى غداً، وتسير الحياة ومعها الفساد. وضحايا لأنّ الشهيد يختار الشهادة، وهم اختاروا الحياة، ولم يقدّموا أرواحهم قرباناً على مذبحها بل سُرقت منهم على غفلة.
من السماء، كلّما كانت الطّائرة تهبط بي في مطارك، كنت أراك عروساً متألقة مليئة بالحياة، فترقص روحي فرحاً لرؤيتك. بيد أن تاريخ 4 أغسطس غيّر ملامحك، ولأوّل مرّة أراك مذبوحة من الوريد إلى الوريد، تنزفين أرواح شيبك وشبابك وأطفالك، وترزحين تحت كم من الحقد.
الساعات تمرّ والأرواح تنتقل إلى رحمة ربها. أمهات، وآباء، وعائلات، تتشبّث بأمل عودة أحبائهم. ذهبوا صباحاً وأصداء أصواتهم لم تسكت بعد. صرخة أمّ: «كيف بدي إرجع بلاك يا امي؟». وأبٌ هرب من الحرب في سوريا: «ربيتها سبع سنين وراحت منّي بلحظة»، ودموعه تتمنّى لو أنّه ذهب وبقيت. وطفل يبكي صارخاً: «ما بدي موت»، ومسنّة تعزف على البيانو فوق ركام منزلها، متحدّية اليأس بالموسيقى والأمل.
سيدتي الجميلة، يا بيروت، يا عروس الأمس، والثكلى اليوم، بكيتك حين أقلعت بي الطائرة لأوّل مرّة إلى المهجر، وأبكيك كلما أتيتك ورحلت عنك. كنت جميلة معشوقة، في زواريبك قصص حب وفراق ونجاحات وخيبات، وثورات وحروب أهلية واجتياحات عدّوة، ورغم الوجع بقيت تلك الشامخة العنيدة. لم يستطع العدو على مرّ السنين محو ملامحك، فشوّهك أبناؤك.
على من تقع المسؤولية؟ لم يعد يهم، فبيروت انفجرت ومات أهلها بالمئات وتشرّد الآلاف، وتيتّم الأطفال، وتساوى الفقير بالغني وابن البلد باللاجئ، وراح شقاء العمر بلحظات.
حرائق أكلت مساحات شاسعة من لبنان. ثورة في وجه نظام طائفي ميليشياوي، وفيروس قاتل لم يرحم أحداً، بطالة تعصف بالبلد وفقر يزداد شراسة يوماً بعد يوم. سلطة فاسدة أم إهمال وسوء إدارة في مرفأ بيروت، أم قصف اسرائيلي لمخازن أسلحة لـ«حزب الله»، وهدير طائرة سمعها عشرات الآلاف من اللبنانيين هزّ جبال صنين، أم نهفة تلحيم باب العنبر 12، تكثر الـ«أم» والنتيجة... تدمّرت بيروت.