جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

قلبي يكتب

سمعت الانفجار الذي ضرب مدينتي الحبيبة بيروت وأنا في لندن، لم أسمعه بأذني ولكني سمعته بقلبي.
مقالاتي السابقة كتبتها بقلمي، إنما هذا المقال أكتبه بقلبي الحزين على رؤية ما حل بست الدنيا وجميلة العواصم. لن أغوص في الكلام عن بيروت وعن الانفجار لأن هناك من سبقني من الكتاب اللبنانيين والعرب الذين أرفع لهم القبعة لتعابيرهم وروعة كتاباتهم. 
أريد أن أؤكد أن الحزن لا يعترف بمساحة جغرافية ولا بالمسافات، فالذي يعيش في الغربة مثلي يدفع ثمن أغلاط زعمائه أيضاً. فلولا سوء إدارتهم، لما كان عدد اللبنانيين في الشتات يفوق عدد المقيمين في البلد بالملايين. والحزن لا يمكن المزايدة فيه ولا حتى المغالاة، لكن حزني نابع من كوني ولدت مع ولادة الحرب في لبنان، عايشتها وعشتها، واليوم أعتقد أن جيلي من بين أقل الأجيال حظاًفي لبنان، وسأشرح لماذا. لأن جيلي يعيش آلام الحرب مرتين، وفي مرحلتين من العمر؛ في المرحلة الأولى حرمنا من عيش عمرنا الحقيقي، لم ندرس في ظروف صحية وطبيعية، ولم نلعب في هواء طلق، لأننا كنا دائماً مكبلين خائفين مخلفين حالة من القلق علينا من قبل أهالينا.
أتذكر الخوف الذي كان يرافق أهالينا عندما كنا نتوجه إلى أحد الحقول في أيام الربيع الزاهية بألوانها، الخوف كان دائماً يقف لنا بالمرصاد، لأن الصواريخ والقذائف التي لم تنفجر والتي لم يأبه أي مسؤول لانتشالها من الأرض كانت دائماً رفيقتنا. ولا تزال عالقة في ذاكرتي صورة ابن أحد الجيران الذي فارق الحياة بسبب الإهمال، وكل ذنبه أنه كان يعيش عمره ويلهو في الحقل. 
اليوم، يعيش أبناء جيلي الخوف من جديد، لكن مسؤولياتهم زادت لأنهم اليوم أصبحوا آباء وأمهات، يخافون على أبنائهم وعلى أهلهم وعلى أزواجهم وأقاربهم.. وأشغالهم.
جيلي عايش الحرب على مدى سنين طويلة ولأسباب لا نفهمها ولن نفهمها.ولهذا السبب يقال في لبنان: «اللي مات بتروح عليه». بالفعل من يموت في لبنان بسبب حرب أو انفجار يخسر حياته ويؤلم أهله ويغير حياتهم إلى أبد الآبدين.
والفرق ما بين حروب لبنان العديدة وهذا الانفجار الذي لم يستغرق إلا ثوان معدودة هو أن نتيجته كانت وخيمة ليس فقط على الأرواح التي سقطت، أوعلى الأرزاق التي دمرت أمام أعين ساكنيها أو على الاقتصاد المنهار أصلاً، إنما على نفسية الشعب وصحته العقلية. فاللبنانيون من بين أكثر الشعوب التي تعيش على الحبوب المهدئة، وهل يمكن أن نلومهم؟ بالطبع لا، لأن ما يجري في هذه البقعة الصغيرة من العالم أكبر من حجمها بكثير، وما حل ببيروت لا يمكن مقارنته بحجم المدينة وما يمكنها تحمله. 
حزني كبير ليس فقط على الصور التي شاهدناها لقلوب الأمهات الممزقة والبيوت المدمرة والمرفأ المهشم، إنما ما يحزنني كثيراً هو وجود نفوس مريضة لديها الوقت لتفبرك الأخبار وتتلاعب بنفسيات اللبنانيين المدمرة. والأصعب هو تداول الصور والأخبار الزائفة ليزيد الطين بلة وتنشر الافتراضات الخاطئة، وكأنها كرة ترمى في  الملعب ليلهو بها الشعب ويتركوا ما هو أهم. 
أكثر ما آلمني، الأمل الذي زرعه مفتعلو الأخبار والفيديوهات المفبركة عن وجود أنفاق تحت المرفأ، لنكتشف بعدها أن تلك الصور تعود لأنفاق في بريطانيا، ولكن هذه الصور وضعت الأمل في قلوب الأمهات اللاتي ينتظرن عودة أبنائهن من العمل في إهراءات القمح في المرفأ أو كانوا يؤدون عملهم في فوج الأطفاء. 
أبشع ما في الحياة هو موت الضمير واستغلال المآسي لري عطش النفوس المريضة.