د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

غسل الدماغ!

هناك من يحلو له تصوير اجتهادات الشعوب بأنها «غزو ثقافي» وينسى أن ذلك «الغزو» لا يتمدد إلا في خوائنا الفكري والقيمي. وهناك من يعتقد أن السجون، والإعلام بشتى صوره، ومشاهير منصات التواصل الاجتماعي يغسلون أدمغة الناس. غير أنني في الواقع لم أجد أدلة علمية دامغة على مصطلحات غسل الدماغ إلا في بحث ذي صلة بالنوم! نعم النوم!
إذ تبين أن الإنسان حينما يحرم من النوم، يصبح أكثر ميلاً للاستجابة لتضليل الآخرين بسبب شدة إرهاقه. فدماغ المرء الفريد يمكن أن «يُغسَل» - كما يقال - أو «يُوجَه» إلى مرادنا بصورة أو بأخرى. وهو بالفعل ما كشفه الباحث في علم النفس الاجتماعي دانيال غلبيرت، عندما لاحظ أن الفرد المحروم من النوم، حينما يسمع عبارة ما، فإنه يقبلها كحقيقة مسلماً بها، بصرف النظر عن دقتها. غير أنه قد يستوعب أنها كانت غير صحيحة، بعد أجزاء من الثانية، فيتدارك ذلك برفضها. وهذا يشير إلى أن الإرهاق قد يجرنا إلى الانخداع، ولو لحظياً، وذلك بسبب ضعف الطاقة العقلية والدافعية، الأمر الذي يولده الإنهاك. ولذلك فإن هذا الأسلوب يستخدم بوحشية في غياهب السجون الاستبدادية، حينما يجبر المتهم على الاعتراف بذنب لم يقترفه.
وقد حاولت أن أجري تجارب عدة عليّ شخصياً فيما يتعلق بالنوم، لكوني مهتماً بصورة كبيرة بعوالمه وأحدث أبحاثه من جهة، ولأن النوم يتحكم في كثير من يومياتنا وإنتاجيتنا ومزاجنا وما يجري في أدمغتنا من جهة أخرى. تجربتي باختصار حدثت عندما كنت في لجنة دائنين مصيرية تجتمع لمدة 10 إلى 12 ساعة، لمدة يوم كامل شهرياً، في مفاوضات مضنية مع شركة مدينة لنا ولبنوك عالمية. فلمست على مدى 18 شهراً، كيف يمكن أن يتدهور التركيز والدافعية والنشاط، حينما يقل النوم إلى دون 4 ساعات. وبعد رفع النوم إلى 8 ساعات، كانت النتائج مذهلة في التركيز والدافعية والنشاط والصبر على تكتيكات الخصوم، لنبدأ في مناورة أخرى. غير أن الدراسات لا تشير إلى عدد ساعات ذهبية للراحة، بل بجودة النوم ومدى الدخول في مرحلة النوم العميق، وهذا حديث آخر يطول.
وكذلك يمكن أن يغسل أدمغتنا أو يشلّ تفكيرنا للحظات «تشتيت الانتباه» distraction؛ إذ تبين أنه يجعلنا أكثر قابلية للتأثر بما نسمع، حتى إن كان ذلك الإلهاء يحدث في غضون برهة خاطفة. وهو ما تبين في دراسة الباحثين بربارا ديفيس وإريك نولز، حينما وجدا أن أصحاب المنازل أكثر قابلية للشراء من «تاجر الشنطة»، الذي يقف عند باب المنزل، وذلك حينما يشتت ذهنهم بذكر السعر بصيغة «البنسات» (الفلوس)، بدلاً من الدولارات الصحيحة، قبل أن يقول لهم it’s a bargain أي «إنها لُقطة»، كما نقول بالعامية، أو «يا له سعر زهيد». هذه الحيلة، وإن كانت مزعجة، أو يراها البعض سخيفة، إلا أنها دفعت الناس بالفعل نحو شراء بطاقات المعايدة لأعياد الكريسماس. فهو تصرف بسيط، لكنه أجرى عملية غسيل سريعة لأدمغتهم، وجّههم خلالها نحو قرار الشراء. خلاصة النتائج، أنه في لحظات إلهاء المستمع، يمكن أن نؤثر في المتلقي.
وهذا يعني أن غسل الدماغ يمكن أن يحدث بصيغ مختلفة، يسيل لها لعاب المرء لصفقة مليونية، سرعان ما يكتشف لاحقاً أنها فخ لغسل الأموال. وقد ألزمتنا البنوك المركزية في الكويت ودول الخليج بدورات سنوية إلزامية تكشف لنا كأعضاء مجالس الإدارة قصصاً مذهلة، ولا تكاد تصدق لطرق غسل الأموال التي غالباً ما يسبقها غسل للدماغ، تعميه حلاوة «الدينار» المجرم قانوناً.
وعلى الصعيد الاجتماعي، هناك غسل ذكي للدماغ ومشروع، وذلك عندما تستخدم أفضل طرائق البيع والإقناع المشروعة أخلاقياً وقانونياً في دفع المشتري نحو قرار الشراء، أو المستمعين نحو الاقتناع بوجهة نظر نراها وجيهة.