أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الغضب... كثير من النيران وقليل من النور

لا يزال من المبكر للغاية الجزم بما إذا كانت أعمال الشغب التي شهدتها الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة يقف خلفها خوف حقيقي إزاء وجود عنصرية مزمنة في قطاعات من المجتمع الأميركي، أم أنها استعرت جراء حسابات سياسية مرتبطة بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
ومع هذا، ثمة أمر واحد مؤكد: استغلت الدوائر التقليدية الكارهة للولايات المتحدة في أوروبا وغيرها الفرصة لتصوير الولايات المتحدة كأمة ليس لديها حتى مجرد استعداد للاعتراف بالمظالم التي يئن منها «الأميركيون من أصول أفريقية». ولدى مطالعة المجلات، يتولد لدى المرء انطباع بأن النخب الأوروبية كانت تتابع الأحداث الجارية داخل الولايات المتحدة، بينما تملؤها درجة أعلى من المعتاد من الفخر والاعتزاز بالنفس.
إلا أن هذه النخب تتجاهل بعض الحقائق.
بادئ ذي بدء، تغفل هذه النخب أن تجارة العبيد ظهرت قبل فترة طويلة من مولد الولايات المتحدة كأمة. كما أنها تنسى أنه بداية من القرن الخامس عشر، كانت تجارة العبيد عبر جانبي الأطلسي بصورة أساسية نشاطاً أوروبياً، في الوقت الذي عملت زعامات قبلية أفريقية بدور المورد الرئيسي.
الأهم من ذلك، أبقت الدول الأوروبية على عبيد من أبناء البلاد، مثلما كان الحال مع الأقنان في روسيا وإسبانيا وإنجلترا، والمزارعين في فرنسا، و«البوير» في الإمارات الألمانية الإقطاعية، على امتداد قرون. في المقابل، نجد أن الولايات المتحدة ألغت العبودية بعد 100 عام فقط من استقلالها.
وقد اضطرت الولايات المتحدة الوليدة حديثاً إلى التعامل مع الأوضاع التي أوجدتها يد القدر والتاريخ أمامها. وكان إرث العبودية من بين هذه الظروف، واستمر حتى نهاية الحرب الأهلية. وكان الأميركيون مدركين دوماً لحقيقة أن العبودية ليست شراً خالصاً فحسب، وإنما أيضاً هي عائق أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ببلادهم.
حتى عند إلقاء نظرة سريعة على الأدب الأميركي نجد أن قضية العبودية لم تغفل قط. في الواقع، خاض كتاب وشعراء أميركيون، بيض وسود، تحدي محاولة فهم ومكافحة ما اعتبروه نقطة قصور متوارثة في التركيب الجيني الاجتماعي لأمتهم.
اللافت هنا أن الكتاب الأميركيين أصحاب البشرة الداكنة لم يلجأوا قط إلى استغلال هذه المسألة، للضغط من أجل إقرار نظام تمييز عنصري تحت مسمى المساواة العنصرية. الحقيقة أنهم جميعاً تقريباً نظروا إلى أنفسهم باعتبار أنهم أميركيون تصادف أن لون بشرتهم داكنة، وليسوا أصحاب بشرة داكنة تصادف أنهم أميركيون.
وفي كتابها «أسود وأبيض وملون»، كشفت هورتنس جيه. سبيلرز أن الكتاب الأميركيين لم يتصرفوا كما لو كانوا عناصر مهمشة داخل وطنهم الأميركي.
وحتى قبل إلغاء العبودية، توقع فريدريك دوغلاس، الذي يعتبر واحداً من أعظم الخطباء على مر التاريخ، حدوث تغيير إيجابي داخل الولايات المتحدة. وقال: «لا أشعر باليأس إزاء هذه البلاد، فيد الخالق ليست قصيرة، ومصير العبودية ليس بمحتوم. ولذلك، أرحل وبداخلي أمل. وبينما أستلهم روح الأمل من (إعلان الاستقلال)، والمبادئ العظيمة التي تضمنها، وعبقرية المؤسسات الأميركية، فإن روحي يملأها الابتهاج كذلك تجاه التوجهات التي تسير نحوها حركة التاريخ».
ونجد الروح ذاتها لدى كتّاب مثل رالف إليسون في كتابه «الرجل غير المرئي» وريتشارد رايت في «فيش بيلي» (بطن السمكة) وتشستر هايمز في «القطن يأتي إلى هارلم»، بل وجيمس بولدوين في «الحريق المرة القادمة».
كما أن قصة «الجذور» التي وضعها «أليكس هالي» تشير إلى حلم «في أميركا فقط» باعتبار أنه واقع، وتتبع قصة أسرة من الطفولة في أفريقيا إلى العبودية في أميركا إلى إنتاج أجيال من المزارعين والمحامين والمهندسين المعماريين والمعلمين والكتّاب البارزين. حتى رواية «المحبوب» لتوني موريسون لا تبدو صرخة غضب زائف مثل تلك التي يطلقها الأبطال المزعومون لحركة «حياة السود مهمة»، وإنما تدور عن رحلة بطولية نحو الخلاص، ليس عبر إعادة خلق الكراهية، وإنما عبر الغفران.
وكان مارتن لوثر كينغ مصدر إلهام للروح ذاتها وكان لديه حلم شامل جامع، وليس مجرد مشروع للرفض والتمييز العنصري بناءً على لون البشرة. وقد نظر إلى العنصرية والفصل العنصري باعتبار أنهما شر يعود بالضرر على كل الأميركيين.
من جهته، وأثناء حضوره دروساً دينية في المدينة المنورة، اشتهر مالكوم إكس باسم «الأخ الأميركي»، لأنه لم يرغب في نبذ هويته الأميركية. ودارت رسالته حول مبادئ العمل الدؤوب والعمل على تحسين الذات، وليس مجرد الأنين والاتجار بدور الضحية.
على الجانب الآخر، لم يتجاهل الكتّاب الأميركيون من خارج أصحاب البشرة السمراء «الشر الموروث» المتمثل في العنصرية. ومن بين الأعمال الذي تناولت هذه القضية «كوخ العم توم» لهارييت بيشر ستوي و«ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل.
كما نجد أن أعمالاً متنوعة مثل «ضوء في أغسطس» لويليام فولكر و«قتل طائر محاكٍ» لهاربر لي و«الفدان الصغير» لإريسكين كالدويل و«ثلاثية الولايات المتحدة» لجون دوس باسوس، خاضت جميعها التحدي عبر صور مختلفة.
وحتى في الأعمال التي جاءت الصورة فيها سلبية، مثلما الحال في رواية «عن الفئران والرجال» لجون ستينبك ومسرحية «الزبيب في الشمس» للورين هانزبري، لم يجر تجاهل قضية العنصرية والفصل العنصري. كما تشير أعمال أخرى مثل «انظر مَن جاء لتناول العشاء» لويليام روز و«الرجل المفقود» لإف. إل. غرين و«في حرارة الليل» لجون بول إلى التعامل مع الشخصيات ذات البشرة الداكنة، باعتبار أنها جزء من الإطار الأميركي الرئيسي من دون إغفال النضال المرير الذي تخوضه.
في المقابل، نجد أن المثقفين الأوروبيين الذين ينتقدون الولايات المتحدة بسبب أسلوب تعاملها مع «الأفارقة» من أبنائها، لا يحلمون بأن يظهر في بلادهم يوماً مصطلح «الفرنسيين من أصول أفريقية» أو «الإنجليز من أصول أفريقية».
في الواقع، وصف أفريقي في حد ذاته يبدو أنه جزء من إرث الإمبريالية، يعود إلى الإمبريالية الرومانية منذ ما يزيد على 2000 عام ماضية. في الواقع، جرى إرسال بابليوس كورنيليوس سكيبيو الأفريقي إلى المنطقة التي تمثل تونس اليوم، لشن حرب ثانية ضد ائتلاف يقوده حنبعل وقبيلة أفري المحلية. وعندما عاد سكيبيو منتصراً، منحه مجلس الشيوخ لقب «الأفريقي»، وفي وقت لاحق بدأوا يطلقون على كامل القارة الواقعة جنوب البحر المتوسط، أفريقيا رغم احتوائها على مئات الأعراق.
وعلى النحو ذاته، نال جنرال روماني قوي آخر، يوليوس قيصر، على لقب «جيرمانيكوس» بعد انتصاره على قبيلة متمردة عرفت باسم الألمان داخل أرض أطلق عليها الرومان اسم ألمانيا، متجاهلين التنوع العرقي والثقافي والديني الذي كانت تمتاز به تلك المنطقة.
خلال الأسابيع الأخيرة، أطلق المناهضون للولايات المتحدة كثيراً من الضجيج الغاضب من دون جوهر يذكر، وأشعلوا كثيراً من النيران دونما ضوء يذكر. وكان هدفهم إرهاب الأغلبية، من خلال التظاهر بأن مشاعر الكراهية إزاء الولايات المتحدة أكثر اتساعاً وانتشاراً عما هي عليه حقيقة الأمر.
ويذكرني ذلك بفقرة وردت في مذكرات الرئيس يوليسيس غرانت. في تكساس، أثناء الحرب المكسيكية، توجه غرانت، الذي كان برتبة ملازم، برفقة ضابط آخر للتحقيق بشأن أصوات عواء بدا أنها صادرة عن مجموعة ضخمة من الذئاب. وعندما وصل الضابطان إلى مصدر الصوت «كان هناك ذئبان فقط، وهما اللذان صدرت عنهما كل الضوضاء التي سمعناها. وكثيراً ما أتذكر هذه الواقعة عندما أسمع الضجيج الصادر عن حفنة من السياسيين المحبطين... إنهم دوماً يبدون كثرة حتى تبدأ في إحصاء أعدادهم».