فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

النواس الليبي: إلى الأمام إلى المجهول!

تشهد حالياً الأزمة الليبية، التي طال أمدها، تفاقماً جديداً، على الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها المجتمع الدولي لإيجاد سبيل إلى سلام دائم وإنهاء العنف في هذا البلد العربي. الاشتباكات العنيفة بين الأطراف المتنازعة استؤنفت من جديد، وفشلت مشاريع تسوية النزاع المطروحة في المحافل الدولية، حتى تلك التي بدا أنَّها حصلت على موافقة أطراف النزاع.
يشير مراقبون إلى ديناميكية جديدة في المواجهة بين الطرفين. يظهر أحد استنتاجاتهم الأخيرة أنه «بعد استيلاء قوات حكومة الوفاق الوطني في 18 مايو (أيار) على قاعدة الوطية الجوية، لم تقم حكومة فايز السراج بتوسيع الأراضي الخاضعة لسيطرتها فحسب، بل وشكلت، مع الأخذ بالحسبان المراكز السكنية التي استولت عليها قواتها بدعم من العسكريين الأتراك وفصائل الأمازيغ، منطقة متواصلة ومتكاملة بدلاً من جيوب متفرقة في الأراضي المتاخمة لتونس، يمكن اعتبارها عنصراً مهماً في تغيير الوضع العسكري والسياسي لصالحها».
بالطبع، يتغير ميزان القوى في المواجهات العسكرية بين الشرق والغرب باستمرار كتأرجح النواس. ولا يكاد أي شخص قادراً على التنبؤ بمدى إمكانية استقرار النجاح العسكري الحالي للسراج وما إذا كان بإمكانه أن يؤدي إلى تحركات مماثلة، أم لا. لكن مع ذلك، يعتبر المحللون هذا التغيير ليس مجرد حلقة من حلقات سلسلة أخرى كسابقاتها، بل يمس الجيش العربي الليبي، ناهيك بهيبة الجيش نفسه، ومعنويات عناصره.
بطبيعة الحال، يمكن إلى حد كبير تفسير المكاسب العسكرية لحكومة الوفاق الوطني بأنها جاءت نتيجة للمشاركة المباشرة للعسكريين الأتراك في أعمال جيشها، وهو ما لا تستطيع القيام به تلك الدول والقوى التي تقف إلى جانب حفتر. لهذا السبب، يمكن التنبؤ وبثقة إلى حد ما من أن قادة حكومة الوفاق الوطني والأتراك الذين يقفون وراءهم (إلى جانب بعض اللاعبين الخارجيين الآخرين الذين يدعمونها) سيستمرون في إظهار تعنتهم فيما يتعلق بأي مشاريع حلول وسط للتسوية ضمن إطار المصالحة الوطنية التي يمكن أن تقوم على أساس ائتلاف بين الشرق والغرب. إذ أن حكومة الوفاق، في هذه الحالة، ستفقد الاعتراف الدولي، الذي سينتقل إلى هياكل السلطة الجديدة، وبالتالي لن تتمكن أنقرة من الادعاء بأنها موجودة في ليبيا بدعوة من حكومة معترف بها رسمياً من قبل المجتمع الدولي. ويرى الأتراك في هذا الوجود أهم أداة لضمان مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية والسياسية في هذا الجزء من البحر المتوسط، بما في ذلك منع تنفيذ خطط منافسيهم وخصومهم، وليس على الإطلاق أي دعم لقوة قريبة منهم آيديولوجياً، على الرغم من أن هذا الظرف أيضاً يلعب دوراً معيناً.
يتفق عدد من الخبراء الروس على استنتاج زملائهم من دول عربية بأن أهمية عملية الاستيلاء على قاعدة الوطية الجوية تتجاوز ليبيا نفسها، في حال كانت بالفعل خلف هذه العملية خطة أنقرة الاستراتيجية في إنشاء شبكة من القواعد العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. من الجدير بالملاحظة في هذا الصدد ردة الفعل الحادة من جانب لاعب إقليمي مهم للغاية مثل مصر على إمكانية تنفيذ هذه الخطة. كما هو معلوم، تعرب القاهرة، ونظراً لشعورها بالقلق إزاء تراجعات الجيش الوطني (حتى لو افترض بأنها مؤقتة)، عن استيائها من الدعم غير الكافي من قبل حلفائها للجيش الوطني، وتحثهم، في الوقت نفسه، على تكثيف الجهود لإيجاد حل سياسي للأزمة الليبية. ومن العلامات المقنعة لموقف القاهرة، المبادرة المصرية التي تم إطلاقها مؤخراً، ودعمتها موسكو التي تدعو باستمرار إلى إنهاء العنف وإلى التفاوض والبحث عن المصالحة بين الأطراف. ومع ذلك، ليس من المستغرب رفض اللاعبين المحليين وحلفائهم في المعسكر الآخر لهذه المبادرة للأسباب التي ذكرتها أعلاه.
يمكن الافتراض أن موسكو، التي تطور مسار الوساطة فيما يتعلق بالصراع الليبي، تأخذ في الاعتبار مواقف جميع اللاعبين الداخليين والخارجيين منهم. الدبلوماسيون الروس، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام، يعقدون بانتظام المشاورات ذات الصلة. في الوقت نفسه، إذا كانت بعض الدول تتخذ موقفاً ثابتاً ومتوازناً في العلاقات الدبلوماسية، فإن هذا الموقف في دول أخرى يتأثر بالانقسامات في الطبقة السياسية. فمثلاً يحتفظ رئيس البرلمان التونسي وزعيم «حزب النهضة» راشد الغنوشي، كما يدعي خصومه الآيديولوجيون، باتصالات وثيقة مع أنقرة وليس بشكل مستقل فحسب، أي من دون اتفاق مع رئيس البلاد، بل ويُزعم أيضاً أنه يستخدم الموارد البرلمانية للترويج لبرنامج «جماعة الإخوان المسلمين» في ليبيا. لم يكن من قبيل المصادفة أن هنأ الغنوشي السراج في 19 مايو (أيار) بالاستيلاء على قاعدة الوطية. وكما هو معروف، لقد أدان في 20 مايو عدد من الأحزاب السياسية التونسية هذا التصرف من قبل رئيس البرلمان. من الصعب التحقق بدقة مطلقة من التقارير التي تفيد بأن تركيا قامت بتركيب مركز تحكم وتوجيه للطائرات من دون طيار يديره ضباط أتراك على الحدود مع ليبيا. ومع ذلك، في روسيا ينطلقون من حقيقة أن هذا شأن داخلي لتونس الصديقة، وينظرون بتفهم تجاه طبيعة النظام السياسي في هذا البلد، الذي يحدده نظام متعدد الأحزاب، يؤثر على سياستها الخارجية، خصوصاً بسبب ضعفها تجاه تفاقم محتمل للأزمة الليبية.
أصبحت ليبيا منصة أخرى - بعد سوريا - للتنافس الروسي - الأميركي الحاد. من الواضح أن التغيير في ميزان القوى في البلاد زاد من اهتمام واشنطن بالأحداث الجارية هناك. اتهم مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر، مؤخراً في 12 يونيو (حزيران)، موسكو بالتدخل في الشؤون الداخلية لليبيا، الأمر الذي «أثار التدخل» في هذا البلد. وأعرب عن قلق خاص بشأن «استمرار تدفق المعدات العسكرية الروسية والأسلحة والمرتزقة الروس»، الذين يزعم أنهم يقاتلون إلى جانب الجيش العربي الليبي، مشيراً إلى «مجموعة فاغنر» سيئة السمعة. وهو ما يعتبره الأميركيون تحدياً لمصالح الولايات المتحدة.
من جانبه، اتهم ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، الدبلوماسيين الأميركيين بالتزوير، ذلك لأنهم يقدمون معدات قديمة كانت تعمل منذ فترة طويلة في البلاد على أنها إمدادات روسية جديدة، ولأنه لا يقاتل، كما يدعون، «المرتزقة الروس» على الإطلاق في ليبيا. كما يمكن التذكير بالاتهامات الأميركية ضد موسكو بتسليم عملة ليبية مزورة، التي ردت عليها وزارة الخارجية الروسية بأن النقود طبعت في موسكو بموجب عقد رسمي مع البرلمان الشرعي الليبي. وما الذي سيبتدعه الشركاء الأميركيون أيضاً لتحميله لروسيا التي لا تعارض التوصل معهم إلى تفاهم متبادل، ولكن ليس على حساب مصالحها؟
تستمر الحملة على مستويات أخرى أيضاً. حيث وجه السفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، في 17 مايو، اتهامات مماثلة لموسكو. من جانبهم، أكد الخبراء الروس أن الدبلوماسي يتغاضى عن المسلحين السوريين الذين جندتهم أنقرة، وكذلك «الفرقة السودانية التي أرسلت إلى البلاد لدعم حفتر على حساب قوة أخرى». لكن موسكو لا تميل للخلاف مع أنقرة بسبب ليبيا رغم انتقاداتها لأفعال «الميليشيات الإسلامية في طرابلس». وقد اتضحت أهمية التوصل إلى اتفاق بينهما بشأن ليبيا، من خلال إدراج هذه القضية على جدول أعمال المشاورات التي كانت مخططة في أنقرة بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الدفاع سيرغي شويغو مع زميليهما التركيين. وكان قد سبق ذلك، تأكيد الرئيس فلاديمير بوتين، في محادثة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، على أهمية الوقف السريع لإطلاق النار في ليبيا واستئناف الحوار بين الليبيين، بناءً على قرارات مؤتمر برلين في 19 يناير (كانون الثاني) 2020، التي صادق عليها مجلس الأمن الدولي بالقرار 2510.
ومع ذلك، ليس هناك من لديه ثقة كاملة في أن ذلك سيتم تحقيقه في المستقبل المنظور. ماذا ينتظر ليبيا: انقسام أم تصعيد للحرب، أم مصالحة؟ أخشى أنه لا تزال الإجابة عن هذا السؤال مستحيلة الآن.