محمد نبيل حلمي
TT

الطيور إذ تُعلمنا الصحافة

خذله الزحام في الصباح فتوقف بسيارته متبرماً، لكن تصادماً بين اثنين من «جيران الطريق» كان يسير آخرهما على هُدى أولهما، ذكّره بدرس مهني صحافي تلقاه مبكراً: «إياك أن تقود سيارتك - قصتك مُعتمداً على ما يراه الآخرون».
وعلى بساطته، يبدو الدرس عصياً على التنفيذ لدى البعض، خصوصاً إذ ما حاصرته الآن ضغوط «السرعة، والسبق، وعداد القراءات الذي صار خصماً وحكماً»، ومن قبل ذلك وبعده قارئ ملول لا ينشغل - وربما لا ينبغي له - بالتوثيق لأصل القصة ومبتدأ الحكاية.
في المساءات الكئيبة لم تغادر باله قصة «الميت الذي تناقل البعض اسمه كوزير جديد» بحسب ما نسخت منصات إخبارية عدة عن بعضها بعضاً، ولتنتهي الحكاية باكتشاف حفرة أعدت عمداً لاصطياد سمعة المهنة، وفي الطريق سقط فيها بعض الذين يسيرون بلا احتراز على خُطى الآخرين.
لكن في الصباحات المشرقة، جاءت طيور «كاسرات الجوز» ومعها هدية مهنية قيّمة، وثّقتها دورية «نيتشر كومينيكيشن» في فبراير (شباط) الماضي، ضمن دراسة لفهم «الشبكات الاجتماعية» للطيور.
في درسها الأول، الذي توضحه الدراسة، تعلمنا «كاسرات الجوز» شيئاً عن: «تقدير أهمية الخبر، وتقييم أوزان المصادر، وعدم المبالغة»؛ ذلك أنها تطلق أصواتاً تحذيرية متباينة «بحسب نوع الخطر ومستوى التهديد»، وتمكّن الباحثون من رصد «اختلاف ملحوظ» بين صوت التحذير «المنخفض» من «البومة الكبيرة» (ذات التهديد المحدود على كاسرات الجوز)، والتحذير (العالي) من «بومة الأقزام» (ذات التهديد الأعلى للكاسرات).
ليس هذا وحسب ما تعلمنا إياه الطيور، ففي التجربة نفسها، نجد تدريباً على فهم «جدارة المصادر، والموثوقية، والدقة»، وفي رد فعلها المُلهم نجد أن «كاسرات الجوز» عندما وصل إلى مسامعها مباشرة - ومن دون وسيط - صوت الحيوانات المفترسة فإنها أعادت تغريد - نشر التحذير لأقرانها بـ«سرعة وكثافة واهتمام»؛ غير أنها وفي المقابل بدت «متحفظة» عندما وصلها التحذير (من نفس نوع الحيوانات المفترسة)، لكن عبر طائر آخر وسيط من غير فصيلتها، فغردت محترزة... هكذا يمكننا أن نستنبط درسنا الثاني؛ ومنه مثلاً أنه «لا يجب الاعتماد على معلومة من مصدر ثانوي، وتعميم إفادته باعتبارها معبرة عن المؤسسة أو الجهة التي ينتمي إليها، وأن نورد السياق والتعريف الدقيق للمصدر ضمن قصتنا».
انتهت مستخلصات الدراسة بالغة الدلالة والدهشة، لكن دروسها لم تنته؛ فما لم تقله ونستطيع فهمه هو أن تلك الطيور اتخذت ردود أفعالها في غابات فسيحة وخارج الأقفاص وبلا رقابة، وهكذا استطاعت «كاسرات الجوز» أن تحظى بقدرات اتصالية رفيعة، وأن تتخذ قرارات سليمة فتحذر من الخطر الحقيقي الذي أدركت وجوده متحملة المسؤولية العامة في نطاق بيئتها، كما أنها لم تكبد أقرانها – مثلاً - حالة تعبئة في غير محلها، عبر المبالغة في التحذير من خطر بعيد.
دروس الطبيعة والفطرة والخلق لا تتوقف؛ حتى بالنسبة لهؤلاء الذي يتصورون أو يصورون أنهم يحمون «كاسرات الجوز» وغيرها من مخاطر الاصطياد والانقراض وارتكاب الخطأ.