أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

عن جديد المشهد السوري

الجديد ليس فقط انشغال السوريين بفيروس «كورونا» وتداعياته، ولا بوضع اقتصادي ومعيشي يزداد تدهوراً ويشدد الخناق على شروط استمرارهم في الحياة، وإنما بما تواتر في الآونة الأخيرة من ظواهر وأحداث فرضت نفسها على المشهد وبدت كأنها حلقات مترابطة.
أولاً، خروج الخلاف والتنازع داخل الجماعة الحاكمة إلى العلن، مع تكرار ظهور رامي مخلوف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يتوسل ويرجو ويحذر ويهدد، خارقاً تقاليد سلطة دأبت على طمر خلافاتها والتظاهر بتماسك بنيتها وتراص صفوفها.
وإذا كان من الصعب معرفة حقيقة أي خبر أو التأكد من صحة أي معلومة في عالم السلطة المغلق والمغلف بالديماغوجية والغموض والقمع، فعادة ما يتم اللجوء لإثارة أسئلة حول الحدث كمحاولة لمقاربة أسبابه وفهم ما يجري.
فما دوافع رامي مخلوف للتوجه، اليوم، إلى الإعلام وعرض مشكلته أمام الناس، وهو خير من يدرك، مخاطر ذلك على اللحمة الطائفية وهيبة السلطة وسمعتها؟! لماذا حصلت قطيعة بينه وبين رأس النظام، ومن أغلق قنوات التواصل المباشر بينهما؟ هل يعود السبب فعلاً لخلاف على تسديد مبلغ مالي، ربما لا يساوي قلامة ظفر من الثروة التي يمتلكها الطرفان، أم ربما لتسويق دوره كبديل، أو محاولة استباقية للقفز مبكراً من قارب نظام بات مهدداً بالغرق وغدا رئيسه موضع أخذ ورد حول صلاحية استمراره في الحكم وقدرته على إعادة إنتاج دعائم سلطته؟
من له مصلحة في دفع الأمور إلى حد نشر غسيل الفساد السلطوي الوسخ، وشن حملة اعتقالات طالت أهم المسؤولين في شركات مخلوف ومصادرة ممتلكاتهم وأموالهم؟ هل ثمة أطراف خارجية شجعت على ذلك لغايات في نفس يعقوب، ربما إحداها الضغط على رأس النظام لتطويعه وإجباره على تقديم تنازلات كان يمتنع عن تقديمها، أم يصح الذهاب إلى اعتبار ما يحصل أحد وجوه الصراع على النفوذ بين روسيا وإيران للسيطرة على مؤسسات الدولة وعلى مقدرات البلد وثرواته؟!
لكن، ورغم تنوع هذه الأسئلة وتعدد خيارات الإجابة عنها، ثمة أمور غدت مؤكدة، منها، عمق الأزمة التي تعتمل داخل النظام السوري وضيق هامش مناورته، ومدى انحسار الثقة بين مكوناته وعجزها عن وأد خلافاتها البسيطة أو منع انفجارها بهذا الشكل والحجم، ومنها أيضاً شدة الاستهانة السلطوية بالبشر واحتقار عقولهم ومشاعرهم حين يتجرأ سارقو ثرواتهم ومن أوغلوا في الفساد والقتل والتدمير، على متاجرة رخيصة بجوعهم وفقرهم وتضحياتهم.
ثانياً، الضوء الأخضر، الذي منح سلطوياً، لفتح باب الرد على ما يعتبر رسائل تشهير وإهانات من قبل موسكو لنظام دمشق، أوضحها الطبيعة المتدنية في تعاطي قيادة الكرملين مع الرئيس السوري، إنْ خلال دعوته لموسكو أو عبر زيارات الرئيس الروسي أو أحد مبعوثيه لدمشق، وآخرها ما أثارته وسائل إعلام روسية عن فضائح بذخ وفساد لرأس النظام السوري، ثم عجزه عن توسيع قاعدته الشعبية لضمان نجاحه في الانتخابات القادمة، بما في ذلك تسريب متعمد لمواقفه الضعيفة في بعض المحادثات السياسية الخاصة، تحدوها إشارات متعددة إلى تراجع ثقة موسكو به، وصمتها عما يثار عن قرب استبداله وإعادة هيكلة النظام ومؤسسات الدولة.
والحال، لا يمكن في ظل التركيبة السياسية والأمنية السورية أن يبادر شخص، أياً كان، للتدخل وانتقاد طرف خارجي حليف، إن لم يكن مدفوعاً من النظام أو بعض أركانه، فكيف الحال إن كان المنتقد من قدامى زعماء أجهزة الأمن كبهجت سليمان، أو عضواً في مجلس الشعب كخالد العبود! وكيف الحال حين تصل الانتقادات إلى حد تفضيل الدور الإيراني والإشادة به مقابل مسخ دور موسكو وما قدمته لإنقاذ السلطة، أو حين يتم رهن حاضر الزعيم الروسي ومستقبله السياسي بقرار رأس النظام السوري وإرادته!
لكن، وبعيداً عن سذاجة هذه الانتقادات، يرجح أن يُفتح الباب على موجة من التداعيات قد يكون أرجحها إنضاج موقف روسي حاسم لإزاحة الرئيس السوري، كخيار لا بد منه لكسب ود الأطراف الإقليمية والدولية الراغبة والمؤهلة للتعاون في ترتيب البيت السوري وللمشاركة في إعادة الإعمار، وربما لا يضعف هذا الخيار، تأجيل تنفيذه، لبعض الوقت، بسبب انشغال مختلف الأطراف بهمومها الخاصة تجاه جائحة «كورونا» وتكلفة مواجهتها.
ثالثاً، تصعيد الموقف الإسرائيلي من وجود طهران وميليشياتها في سوريا، حيث صرح وزير دفاعها بأن هدف تل أبيب بات، اليوم، ليس لجم نشاطات التموضع الإيراني في سوريا، بل الانتقال بشكل حاد إلى طردها نهائياً، الأمر الذي تجلى بتواتر عمليات قصف مواقع محسوبة على طهران حتى في أقصى البلاد.
وإذا كان أحد أسباب التصعيد الإسرائيلي هو تنامي المخاوف من استهداف حكام طهران وميليشياتها لأهداف وأماكن استراتيجية وحيوية في قلب تل أبيب، فثمة سبب آخر يتعلق بدعمها الصريح للدور الروسي في سوريا وبميلها لتمكين موسكو من التفرد في إدارة دفة الصراع هناك واختيار قيادة جديدة أقل ارتباطاً بإيران، ما دام الجميع يدرك أن نفوذ طهران في سوريا يرتبط ببقاء النظام ورأسه في السلطة، بينما ثمة من يرجع السبب إلى تعاون وتنسيق مع السياسة الأميركية في عمل مشترك غايته إضعاف إيران وتطويعها ليس فقط، من خلال حصارها وتأزيم أوضاعها الداخلية، وإنما أساساً عبر تقليم أظافرها الإقليمية، وفي هذا السياق تدرج عملية مقتل قاسم سليماني، ثم الرهان على تداعيات إخراجها من سوريا لإضعاف نفوذها في العراق ولبنان، ربطاً بما أظهرته ثورتا البلدين من حالة عداء لافتة لوصاية طهران وأدواتها.
ربما تكشف الأيام والأسابيع القادمة مزيداً من تفاصيل المشهد السوري وخلفياته ومآلاته، لكن جديده عزز، بلا شك، من توجس الناس ومخاوفهم من المصير الذي ينتظره وطن أوغل سادته في تدميره وقتل أبنائه وتشريدهم، وبات مستقبله رهينة إرادات خارجية، والأهم هو تبعات استمرار هذه الجماعة الحاكمة، مع عجزها عن تخفيف الأزمات المتفاقمة، وكسب التعاطف للبدء بإعادة الإعمار، وتالياً مع إصرارها على استنزاف ما تبقى من قوى المجتمع واستجرار أسوأ أنواع الحصار والعزلة، وإكمال دورة الخراب التي بدأتها منذ استيلائها على السلطة!