سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

للقصة وجهان... وهذا وجهها غير المضيء!

كل الذين أرادوا تصوير أي شيء على أن له وجهين، لم يجدوا أقرب من القمر - رغم بُعده عنا - يضربون به المثل، فقالوا إن له وجهاً مضيئاً يشع منه النور متدرجاً على مدى الشهر. وفي المقابل يبقى له وجه آخر لا يعرف الضياء، ويمتلئ بالرمال والصخور. هكذا قال العلماء الذين تفرغوا لدراسة القمر برماله وصخوره، وكانوا بالطبع على النقيض مما رآه فيه ويراه الشعراء!
وهؤلاء أنفسهم الذين أدهشهم القمر بوجهيه، مدعوون إلى أن يتركوا القمر في عليائه، ويحولوا أنظارهم نحو الأرض التي بدت بما يجري على وجهها هذه الأيام، أقرب ما تكون إلى القمر في قصة الوجهين بالذات، ولكن فرقاً هائلاً يظل بين وجهين هناك فوق القمر وعلى سطحه المنير، وبين الأرض هنا وقد تبدل حالها، وبدا أن الوجه الذي عشنا نعرفه لسنوات على سطحها، ليس هو وجهها الوحيد!
عشنا نسمع ونقرأ عن أن التقدم الذي أحرزته البشرية على ظهر هذا الكوكب خلال الخمسين عاماً الماضية، يفوق كل الذي حققته من خطوات على ظهرها طوال تاريخها المكتوب. كان ذلك يقال حين يراد إثبات أن القفزات التي استطاع الإنسان أن ينجزها في عقود من الزمان معدودة على أصابع اليد الواحدة، تتجاوز كل ما قضى الإنسان ذاته قروناً طويلة وهو يحاول أن ينجزه ويحققه!
ثم جاء فيروس «كورونا» المستجد مع نهايات عام انقضى وبدايات عام كان يبتدئ، ولسان حاله يقول إننا كنا نخطئ في الحساب، وإن منجزات العقود الخمسة المقصودة، أو حتى خطوات القرون السابقة على هذه العقود، ليست هي الكلمة الأخيرة في هذا الكتاب، إذا ما كان القصد هو قياس قدرة هذا العالم المعاصر على الإمساك بكل شيء من حوله في يديه!
ولا أعرف لماذا تذكرت آية القرآن الكريم التي تقول: «حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازَّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تَغْنَ بالأمس».
لا أعرف، فالآية حسب كل التفاسير المتاحة لكتاب الله، تصور الحال الذي ستكون عليه الأرض يوم تقوم القيامة على الناس، ولا تتوقف بالوصف أمام مجرد فيروس قد يهاجم البشر كل فترة، ثم لا يلبث حتى يختفي وتنقضي أيامه، فلا يتبقى منه شيء سوى الذكريات التي لا تبعث إلا على الأسى، إذا ما طافت في عقل أحد ممن عاشوا أحداثها أو طالعوا عنها في كتاب!
حدث هذا مع كل الفيروسات والأوبئة التي مر بها بنو آدم، من أول وباء الطاعون الذي داس في طريقه فوق أجساد أبرياء بالملايين، إلى فيروس إنفلونزا الخنازير الذي هاجم العالم في نهاية العقد الأول من هذا القرن، فأثار كثيراً من الفزع في أيامه التي لحُسن الحظ لم تستمر معنا طويلاً. ولكن ذكريات إنفلونزا الخنازير ما كادت تبهت في العقل وتتوارى في الوجدان، حتى استيقظنا على هذا الوباء الثقيل الذي يتجول في أرجاء العالم، ويزحف محتلاً مزيداً من الأرض في كل نهار؛ بل إنه يتقدم في كل ساعة وفي كل لحظة، وكأنه حريق شب في غابة ذات يوم عاصف، ثم راح يطوي أرضها في كل اتجاه!
ولكن كلمة «الحصيد» وحدها في الآية القرآنية، هي التي ربما تصور من مكانها في القرآن ما يمر به العالم مع «كورونا» الذي يضرب في قسوة، ولا يستثني عاصمة بين العواصم. هي كلمة واحدة، ولكنها تجسد في معناها المكثف، حال هذا العالم التعيس في مواجهة الفيروس الجوال، وهي تفعل هذا ببلاغة حين توضع في سياقها من الآية، فيقال عن الأرض الحصيد: كأن لم تَغْنَ بالأمس!
والمعنى أن الأرض إذا أصابها ما يجعلها حصيداً، ستبدو وكأن حياة لم تكن على سطحها بالأمس، وستصبح وكأنها لم تشهد عمراناً من قبل، أو كأنها لم تعاين مظهراً من مظاهر القوة في تاريخها الذي عاشت تعرفه وتراكمه على مر السنين!
وقد كانت الأرض إلى ما قبل ظهور «كورونا» في مدينة ووهان الصينية بساعة واحدة، تقف على أعتاب حالة كهذه الحالة الموصوفة في الآية تماماً. كان أهلها يتصرفون وكأنهم قد ملكوها من كل أطرافها، وكانوا بالضبط يظنون أنهم قادرون عليها!
كنا نتابع أحاديث عن سلاح نووي لدى حائزيه يكفي لتدمير الكوكب كذا مرة، ولم يكن حائزوه يكتفون بالحديث عن قدرتهم على تدمير الأرض مرة واحدة، أو مرتين، أو حتى عشر مرات، ولكنهم كانوا يتحدثون عن قدرتهم على تدميرها مئات المرات. ولم يكن أحد يفكر في معنى الرغبة العبثية في تدمير الأرض أكثر من مرة. فالتدمير مرة واحدة يكفي ويُغني، حتى ولو بمنطق الشاة التي لا يضيرها سلخها بعد ذبحها!
وكنا نتابع أنباء عالم تتحرك أفكاره، وأشخاصه، وبضائعه، وأشياؤه، فتعبر حدوده بغير عوائق، ولا حوائط، ولا قيود، إلا قيود الإرهاب الذي طرأ في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وكنا نتكلم عن عالم يلهث في اتجاه استحداث كل ما هو جديد، بصرف النظر كلياً عما كان هذا الجديد يحطمه في سبيله من مبادئ، وقيم، وقواعد، وتقاليد، ميزت حياة الإنسان على الدوام!
كنا نتحدث عن عالم منفتح بعضه على بعض، بأكثر مما حدث في أي وقت سابق، وكنا إذا سمعنا عن إدارة أميركية حالية تقف في وجه هذا التدفق من الانفتاح، ثم تسعى إلى تشييد سور يفصل حدود الولايات المتحدة عن المكسيك جنوباً، اعتبرنا ذلك من قبيل الوقوف في طريق مضمون العصر وطبيعته، وحسبناه خروجاً على العادة، وكسراً للمألوف، ورأيناه أمراً غير مقبول ولا مهضوم. فليس أسهل من الحركة المندفعة بكل صورها في كافة أرجائه، ولا حدود بالتالي ولا سدود في عصرٍ هذه هي طبيعته المستقرة!
وفي لحظة، بدت ميادين هذا العالم نفسه صامتة، وتجلت شوارعه خالية من أهلها، وكانت الكاميرات تتجول على الشاشات بين الشوارع والميادين، وتنقل اللقطات الخالية من البشر. كان كل إنسان قد لاذ ببيته يحتمي ويتقي، وكان الجميع يتخفون أمام كائن دقيق ليس من الممكن رؤيته، إلا بميكروسكوب إلكتروني بالغ القوة، وكانت المفارقة أن هذا العالم الذي كان إلى أسابيع مضت يستعرض عضلات القوة بعضه على بعض، يقف عاجزاً إزاء كائن بهذا الحجم، بقدر ما يقف حائراً لا يدري ماذا عليه أن يفعل، ولم يكن مصدر القوة في هذا الزائر المخيف في حجمه المتناهي في الصغر وفقط، ولكن قوته كانت ولا تزال في قدرته على أن يتحرك في حرية كاملة، وكأنه يتحدى أن يستطيع أحد أن يوقفه أو يعثر له على دواء!
كان للقصة وجهان، أحدهما مضيء بقي العالم يعيشه إلى قبل انطلاق «كورونا» بساعة، دون أن يعوق حركته على الأرض شيء، أما الثاني فلقد تكفل الفيروس بالكشف عنه حين اشتد انفلاته من كل عقال. لقد أجلس «كورونا» العالم في البيت، ليتحرك بالنيابة عنه دون عائق واحد يعترض الطريق!