تنفست السماء فوق مدن الصين، وخفَّت سحب الهواء الملوث. أظهرت صور جوية بثتها وكالة «ناسا» الفرق بين ما قبل «كورونا» وما بعده، إذ أظهرت تناقص التلوث في سماء البلاد بشكل ملحوظ، كما سجلت الأجواء في العالم انخفاضاً ملحوظاً في حركة الطيران التي تساهم بنسبة 2 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم.
بدا وكأن الأرض انتهزت فرصة انتشار فيروس لعين أصاب البشر، لتغتنم الفرصة، لتتنفس ولتعيد بعض التوازن البيئي الذي كان حدوثه في الأوضاع السابقة قريباً من المستحيل.
قالت عالمة طبيعة لإحدى المحطات التلفزيونية، إن «الطبيعة تنتقم لنفسها بهذا الفيروس»، أرادت أن ترى في المرض المنتشر عقاباً للبشر على تدمير الحياة الطبيعية، ولكنها لم تحسن التعبير. ربما يجب أن نرى الأمر من ناحية أخرى، عندما تصبح السماء صافية والهواء أنقى بفعل اختفاء الملوثات، يجب أن نرى الفرق ونفهم أهميته. عندما نرى صوراً للقنال الكبير في فينيسيا، وفيها نرى للمرة الأولى بوضوح الأسماك قريبة من سطح الماء، ونرى الطيور وهي تسبح بهدوء غير خائفة من مركب سريع أو من ضربات مجداف جندول، وعندما نقرأ أن عمدة المدينة يلاحظ أن الهواء في المدينة صار أنقى، يجب أن يجعلنا ذلك نتوقف ونفكر في السبب، وأن نحسب خسائرنا.
المستفيد الأكبر من توقف حركة الحياة الطبيعية والسريعة هي الحياة الفطرية، وأيضاً الإنسان بشكل من الأشكال، رغم خطر المرض وتوابعه الاقتصادية. في فينيسيا وغيرها من المدن الإيطالية المتضررة من الفيروس، توقفت الحياة وتوقف تدفق السياح، هي السياحة التي كانت تهدد البندقية العتيقة بالتلوث من السفن الضخمة ومن أفواج السياح الذين يجوبون الطرقات الضيقة. هدأت البندقية الآن، وتحركت أسماك قنالها بحرية؛ لكن هل يرتاح سكان المدينة قليلاً من ذلك الهجوم السياحي؟ ربما لا، فالفيروس لن يترك مكاناً للراحة بين البشر؛ لكن الأسماك والطيور والسماء تعرف الفرق.
ربما تكون العزلة الجبرية التي يمر بها سكان الكوكب فرصة للتفكير وتغيير كثير من أنماط الحياة، كثير تغير بالفعل، لم يعد الناس يسرعون للانتهاء من مشاغل أيامهم، لم تعد هناك سيارات كثيرة تخنق الطرقات، اجتمعت العائلات، ربما للمرة الأولى بهذه الطريقة الإجبارية. لم يعد التسوق هو الأهم، إذا استثنينا بالطبع التسوق المحموم في كثير من بلدان العالم للحصول على الأطعمة المعلبة و«مناديل الحمام» والأرز والمعكرونة، وهو تسوق مجنون لا عقل له. تغيرت بالفعل أنماط كثيرة للحياة، تحولت الإنترنت إلى المنقذ لأرباب العمل وللعائلات والأفراد، العمل من المنزل، والترفيه من المنزل، هل يطول زمن العزلة؟ لا أحد يعرف؛ لكن هناك دائماً ملاذاً في الطبيعة، وربما هي المنقذ لنا، رغم أننا لم نكن رحيمين بها. لن تتضجر الحدائق من المشي بها، ولن تعترض النباتات إذا التفتنا لها ورعيناها، لن تبخل علينا الطيور بغنائها. ربما تسمح العزلة الإجبارية بعودة قراءة الكتب، والعودة لهوايات هجرناها بسبب ركضنا الدائم في دوامة الحياة اليومية. يقال إن كل سحابة مبطنة بالضوء، وها هي سحب «كورونا» المنذرة بالخطر تخيم فوقنا، نتمنى أن تنقشع سريعاً من دون أضرار كثيرة؛ لكن هناك دائماً ضوءاً يستحق البحث عنه.
8:7 دقيقه
TT
ما خلف سحب «كورونا»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة