لافتٌ جداً تردّد منظمة الصحة العالمية في إعلان «فيروس كورونا» – أو بالأصح «الفيروس التاجي المستجدّ» الذي اختير له اسم «كوفيد 19» – وباءً عالمياً.
الأسباب مفهومة، وقد تبدو بالنسبة إلى كثيرين مبرّرة، إزاء حالة الذعر التي تجتاح عالماً لديه من التساؤلات أضعاف ما عند الأطباء وعلماء الصحة العامة من إجابات.
وبين تقرير من هنا ومؤتمر صحافي هناك، وقرار تتخذه هذه الحكومة أو تلك على عجل... تنهار الأسهم وترتبك الأسواق، وتتعطّل الملتقيات وتُلغى فعاليات وتعلّق الرحلات الجوية، وتُعزل مُدن وأحياء في طول الأرض وعرضها.
«الإنسان عدوّ ما يجهل»، لا شك في ذلك. والإمكانيات العلمية والبحثية، التي نحتفل بتقدّمها كل يوم، تبقى في سباق دائم مع مستجدّات، منها ما هو متوقع، ومنها ما يأتي على حين غِرّة. وفي نهاية المطاف، لا بد من الإقرار بأننا أحياناً نكون ضحية لمنجزاتنا، والدليل الأبسط على ذلك أنه مع كل حبّة دواء يتناولها الفرد منّا، تنبهنا الشركة الصانعة إلى الأعراض الجانبية.
ثم إن أي عقار يُطوَّر في دول العالم الراقية يجب أن يُخضَع لفترة تجارب – تطول أو تقصر – قبل اعتماده، ومن ثم طرحه في الأسواق. كذلك، كل اكتشاف علمي في دول العالم المسؤولة، وذات الأنظمة القضائية الناجعة والمستقلة، ينتظر مساراً معقّداً من النواحي العلمية والأخلاقية والقانونية، قبل دخوله حيّز التطبيق، ومن ثم، التصنيع فالتسويق.
هذا ما يحصل في الغرب، تحديداً، في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، ولو على حساب التنافسية وتعجّل الاختراق التسويقي. ذلك أن مقاضاة الأطباء والمستشفيات وشركات صناعة الأدوية مسألة مألوفة، ولذا يشكل غطاء التأمين، تحسّباً لتبعات المقاضاة والمطالبة بالعطل والضرر، حقيقة واقعة تضبط العلاقة بين المريض والجهة المُعالِجة.
هذه الخلفية لا بد من فهمها وسط حمّى الفيروس الذي يجتاح العالم اليوم. وبالنسبة إلى غالبية الناس، كما أعتقد، الهاجس الأول هو السلامة والشفاء. ومع أن ما يُنشر عن أن نسبة الوفيات الناجمة عن الإصابة بـ«كوفيد 19» تتراوح بين 1% و5% - وهي بالتالي أدنى من النسب الموازية في أوبئة فيروسية مشابهة مثل «سارس» و«إيبولا» وغيرهما - فإن الانتشار سريع جداً، وسلوكيات الفيروس مجهولة... بما فيها فترتا الحضانة والعدوى.
أكثر من هذا، من الواضح أن ثمّة فئات من المجتمع، مثل كبار السن وأولئك الذين يعانون من أمراض القلب والسكّري وارتفاع ضغط الدم، هي الأضعف مقاومة للفيروس. وحتى في الدول المتقدمة طبياً وصحياً، مثل بريطانيا، هناك قلق كبير، إذ يشير أحدث التقديرات إلى أن في بريطانياً واحداً من أصل 10 سيدخل المستشفى، على الرغم من كل الاحتياطات والتدابير الوقائية.
الإحصاءات جارٍ تحديثها ساعةً بساعة على مستوى العالم بأسره، ولا سيما عبر منظمة الصحة العالمية التي تُجري عملية موازنة دقيقة، لا تُحسد عليها، بين واجبات التوعية والتحذير والرصد من جهة... وتحاشي التسبب في ذعر مضارّه أكبر من منافعه من جهة أخرى.
ومن ثم، إلى جانب التدابير الصحية، وقايةً وعلاجاً، فإن البعدين الاقتصادي والسياسي يدخلان جدياً في الحسابات.
في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، قبل أن يتوسّع انتشار الفيروس خارج الصين ويأخذ الأبعاد التي يأخذها اليوم، صدر عن وزير التجارة الأميركي ويلبر روس، تصريح صحافي يخلو من الحصافة، ورأى البعض أنه يعبّر عن التوجّهات التي تخالج بعض التيارات السياسية في العالم. روس قال، في رده على سؤال وُجه إليه في قناة تلفزيونية محافظة عن قراءته لوضع الفيروس في الصين: «لا أودّ الكلام عن انتصار إزاء مرض مؤسف وخبيث جداً، لكن الحقيقة أنه يعطي قطاع الأعمال ما يمكن أن يفكّر فيه لدى مراجعة سلسلة مصادر التوريد...»، قبل أن يضيف: «... بناءً عليه، أعتقد أنه سيساعد على تسريع عودة الوظائف إلى أميركا الشمالية!».
بطبيعة الحال، جوبه هذا الكلام بانتقادات من مناهضين ديمقراطيين لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. إلا أنه وُوجه أيضاً بالتحفظ والاستغراب من جهات اقتصادية لا علاقة لها بالسياسة الأميركية ومناكفاتها. وجاء في تعليق لخبير اقتصادي، مقره سنغافورة، قوله إن الشركات العالمية لن تتخذ قرارات استثمارية جدّية وطويلة المدى على أساس انتشار مرض قد يستغرق ثلاثة أو ستة أشهر. وتابع القول إن تأثير الفيروس على الولايات المتحدة قد يكون سلبياً أكثر منه إيجابياً، موضحاً: «في الحقيقة، ستنتهي الولايات المتحدة في المحصلة خاسرة، لأنه على الرغم من كل شيء، الصين تبقى سوقاً ضخمة للولايات المتحدة، وإذا ما تباطأت سرعة نمو الاقتصاد الصيني جدياً سيتباطأ الاقتصاد الأميركي أيضاً».
من ناحية أخرى، فإن الصين ليست فقط سوقاً استهلاكية ضخمة، بل صانع أساسي عالمي للمكوّنات التي تحتاج إليها وتستوردها الشركات الصانعة الأميركية والأوروبية وغيرها. وبالتالي، فإن تعطّلها سيخلّف تبعات سلبية على العالم بأسره، وبالذات في الغرب.
ثم إن وتيرة الانتشار تسارعت عالمياً بدرجة كبيرة، وتجاوز انتشار الفيروس عالمياً حجم البؤرة الصينية الأصلية للفيروس، كما أن الصين «امتصت الصدمة» وعملياً تأقلمت معها، وهي الآن تنشط في تطويقها واحتوائها وتطوير علاجات للفيروس. في المقابل، بدأ العالم، خارج الصين معركته معه، في كثير من الحالات من نقطة الصفر. وكان مهماً خلال الأيام الأخيرة التعامل مع حالات يقول خبراء إنه لا صلة مباشرة لها بالبؤرة الصينية الأصلية.
عربياً، بمعزل عن التحامل السياسي، ووفق الإحصاءات، تلعب إيران، لا الصين، دوراً محوَرياً في انتشار الفيروس في المشرق العربي. أما بالنسبة إلى دول شمال أفريقيا فتشكّل البؤرة الأوروبية الأكبر، أي إيطاليا، وبدرجة أقل دول أوروبية غربية تقيم فيها جاليات مغاربية (تونسية وجزائرية وتونسية، بالذات)، مصدر الخطر الأبرز.
حتى الآن كانت ردّات الفعل في معظم الدول العربية جيدة ومسؤولة، فتعاملت بحكمة مع الاعتبارات الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وجعلت سلامة المواطن في رأس أولوياتها، وهذا أمر ضروري. ستكون هناك خسائر، وهذا أمر مفهوم.
ستُلغى فعاليات وتُعلّق الدراسة ويُقيد التنقل والتبادل. وسيكون لكل هذه الأمور تداعيات وتكلفة مادية عالية. لكن، سلامة المواطن والصالح العام يقضيان بوعي ما هو حاصل، وما يمكن أن يحصل... حتى انقشاع الغمامة.
8:2 دقيقه
TT
الوعي والمسؤولية في وجه «كورونا»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة