خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

بريطانيا: الياقات البيضاء المتسخة

في الثمانينات انطلقت السياسية الفيلسوفة مارغريت ثاتشر في حملة خصخصة القرار الإداري. أي تمليك وسائل الإنتاج - رأس المال - لمن يدفع ثمنه من جيبه، ويتحمل ثمن القرارات الإدارية من جيبه. جعلت لوسائل الإنتاج «أصحاباً»، ولم تجعل مالاً مشاعاً بلا صاحب. كانت هذه مخاطرة كبرى في عصر الديمقراطية منتفية الشروط. قبل الحرب العالمية كان شرط التصويت التملك. وهو شرط غرضه ضمان أن يتخذ الناخب قراراً له انعكاسات على أمواله الخاصة، تجنباً لأن يعتمد التصويت على الكثرة العددية فقط. فيجامل الفقراء أنفسهم. أو تتحكم في القرار الانتخابي مشاعر الحسد والرغبة في قص رؤوس المتفوقين.
الضربة كانت موجعة لمدن الشمال الإنجليزية. عبثا حاولت ثاتشر إقناع الطبقة العاملة الصناعية بأن هذا أفضل لهم على المدى البعيد، وأن الوضع القائم سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد البريطاني على الجميع، في حين أن تشجيع رأس المال على الاستثمار سيفتح لهم فرصاً أفضل. في الوقت نفسه، غضبُ هؤلاء العمال كان مفهوماً، لأنهم معنيون بجلب الطعام إلى موائد أطفالهم في عشاء اليوم، وليس بعد سنين.
في انتخاباتها الثانية، 1983 كسرت ثاتشر التوقعات وحققت نصرها الأكبر بعدد مقاعد 397 مقعداً. لقد فهم أغلبية البريطانيين تشخيصها للمرض، ومن ثم تفهموا العلاج القاسي الذي قدمته، وبدأوا في رؤية ثماره. واستمروا معها على هذا المنوال حتى تنحيها عن رئاسة الوزراء في بداية التسعينات، دون أن تخسر أي انتخابات عامة. رغم هذا النصر الكاسح الذي حققته في بداية الثمانينات، والذي لم يتكرر حتى الآن، ظل حزب العمال قادراً على الاحتفاظ بمعقله في مدن الشمال الإنجليزية. مدن التصنيع. مدن العمال. بل ازدادت هذه المدن ضراوة في نفورها من المحافظين وتوارثته.
لم يتغير هذا أبداً حتى الانتخابات البريطانية الأخيرة. ما يجعل انتصار بوريس جونسون تاريخياً. لأول مرة يستطيع زعيم لحزب المحافظين أن يخترق «الجدار الأحمر» ويحدث فيه ثغرة زرقاء لا يمكن تجاهلها. حتى في مواجهة ثاتشر، استطاع حزب العمال أن يحصل على 209 مقاعد. في مواجهة بوريس جونسون حصل على 203 فقط. الناخبون الذين صوتوا لحزب المحافظين في مدن الشمال علق بعضهم بالقول في لقاءات تلفزيونية: «كنت أشعر أنني خائن وأنا أصوت للمحافظين. بُغْضُ المحافظين شيء توارثناه في جيناتنا، لكن لا بديل. لو علم أبي بتصويتي للمحافظين لتقلب في تربته».
والسؤال الذي شغل المتابعين بقوة: لماذا؟ ما الذي يجعل هذه المدن التي تعتمد بشكل كبير على الخدمات الحكومية تصوت لشخص أجندته ثاتشرية، يتهمه مناهضوه بأنه يريد تخصيص الخدمات الصحية، آخر الخدمات الحكومية التي لم يجرؤ رئيس حكومة سابق على الاقتراب منها؟
والإجابة من وجهة نظري: الياقات البيضاء المتسخة.
ما أقصده بالياقات البيضاء المتسخة هو هذه الفئة من المهندمين التي تنصب نفسها متحدثة باسم الفقراء. لكنها بدلا من الاستماع إليهم وقيادتهم إلى ما يجعل حياتهم أفضل تصادر أصواتهم. وإن خالفوها توبخهم. الفقراء بالنسبة لهم فرصة لتأييد سهل، رخيص، لا يكلفهم تفكيراً عميقاً، ولا يناقشهم، ولا يجبرهم على وضع رؤية متكاملة - فقط يمنحهم ثقته مقابل عطاياهم المجانية وشعارات. ظهر هذا واضحاً في «بريكست»، حيث تعارضت رغبات الياقات الزرقاء من العمال، مع الياقات البيضاء من القيادات السياسية لحزب العمال. تلك التي تريد سياسات عولمة، وفي نفس الوقت تطلب تأييد ضحايا العولمة. تلك التي تريد رونق كافيهات المثقفين في لندن وتعبيراتها المحببة. وتريد في نفس الوقت تأييد أبناء عمال المحاجر. تريد تأييد الوافدين في لندن، وتأييد المتضررين من الهجرة في مدن الشمال.
لقد أصرَّت الياقات البيضاء في حزب العمال على إدارة ظهورها للدوائر العمالية التي صوتت بقوة لـ«بريكست»، وفعلت ذلك بأسلوب رخيص ملتوٍ. في 2017 تعهد حزب العمال في المانيفستو الانتخابي باحترام رغبة الناخبين في «بريكست». ثم قضى ثلاث سنوات بعدها يفعل عكس ذلك تماماً. وفي أول فرصة لانتخابات جديدة عاقبه الناخبون عقاباً مريراً.
ظاهرة الياقات البيضاء المتسخة ظاهرة عجيبة، ممتدة. تراها في بريطانيا كما تراها في الشرق الأوسط.
مثقفون وفنانون وسياسيون يرون علاقتهم بالجمهور في إطار إرضاء نرجسيتهم. هم تلك الفئة من اليسار في منطقتنا التي طالما قدمت نفسها على أنها تقدمية علمانية تحارب «الرجعية»، ثم صارت تناصر الإسلاميين، ووسائل الإعلام والتلميع التابعة لهم، من الخدمات العربية في المؤسسات الإعلامية العالمية، إلى صحف أميركية. يعيشون في حياتهم نمطاً منفتحاً مرفهاً، ثم يتحالفون مع تيارات تعدنا بحياة متزمتة منغلقة. رفعوا شعارات الاستقلال حين كانت هي الموضة، ثم لم يمانعوا في التبعية لسيطرة إسطنبول أو طهران. وأعادوا قراءة التاريخ ليقنعونا أنه لا بأس. الاحتلال العثماني لم يكن سيئاً إلى هذه الدرجة. كل هذا لمجرد أن الإسلاميين يملكون جمهوراً ووسائل الوصول إلى الجمهور... وهم يريدون تصفيق ذلك الجمهور.
الياقات البيضاء المتسخة خسرت حين وضعت دراما السياسة شعاراتها المعلنة في مواجهة نرجسيتها. خسرت حين كشفت الدراما نفاقها. سواء في بريطانيا، أو في الشرق الأوسط.