أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

معضلة الغرب الكبيرة

تبذل البلدان الديمقراطية الغربية قصارى جهدها راهناً لتحقيق التوازن بين التحديات الجيوسياسية التي تفرضها الصين مع الحاجة الماسة والمستمرة لتقانة الجيل الخامس الحديثة، في إشارة إلى ضرورة توافر مسار مقاربة مشتركة بين الجانبين.
وتعد الجغرافيا السياسية من الموضوعات الصعبة بدرجة كافية. لا سيما مع تضمينها في اصطلاحات التقانة الحديثة العصية على الفهم والأجهزة الذكية ذات الصلة، يمكن أن تتحول إلى معضلة بالغة التعقيد. وهذا، على نحو تقريبي، ما حدث لدى البلدان الغربية إثر تصادم أمرين مهمين:
الصعود للسلطوية الصينية في مقابل التحول العالمي إلى البنية التحتية من البيانات اللاسلكية لتقانة الجيل الخامس، أي الأساس لما بات يُعرف إعلامياً بالثورة الصناعية الرابعة.
ومرجع ذلك أن شركة «هواوي تكنولوجيز» تقف عند مفترق طرق هذين التطورين الأخيرين، ويتعين على الغرب اتخاذ القرار ما إذا كان يمكن الوثوق في هذه الشركة لبناء شبكات الجيل الخامس الحديثة. كانت الولايات المتحدة، الخصم الجيوسياسي الأول أمام الصين، قد حظرت أعمال شركة «هواوي تكنولوجيز» في أسواقها المحلية، مع رغبتها في أن يحذو الحلفاء حذوها في ذلك. وتابعت كل من أستراليا واليابان الخطى الأميركية في واقع الأمر. ومن بين البلدان الأخرى التي تنظر حالياً في إقصاء الشركة الصينية عن أسواقها المحلية هناك نيوزلندا، وكندا، والهند، والدنمارك، وبولندا، وجمهورية التشيك.
وهناك بلدان غربية أخرى، رغم استمرار آلامها الاقتصادية إزاء هذه المعضلة، تميل إلى السماح للشركة الصينية العملاقة بالمشاركة الفعالة في بناء شبكات الجيل الخامس، وإن كان ذلك ضمن مجموعة من المعايير المحددة بعناية، وهذه البلدان تشتمل على فرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، والنرويج. وكان أغلب البلدان الأخرى التي منحت شركة «هواوي تكنولوجيز» الضوء الأخضر لمواصلة العمل تقع خارج المضمار الجيوسياسي لواشنطن فيما يتعلق بالصين، بما في ذلك روسيا، وتركيا، والسعودية، والإمارات، وتايلاند، وماليزيا، وإندونيسيا.
ومن الصعب للغاية الوقوف على الطرف المحق في هذا الشأن. ومن المعروف عن شركة «هواوي تكنولوجيز» أنها تتخذ مقرها الرئيسي في مدينة شينغن الجنوبية الصينية، وهي ليست من الشركات المملوكة للدولة، وإنما هي تقع في مكان وسط بين الملكية العامة والخاصة لكونها من كبريات الشركات التقنية الصينية. وتأسست الشركة على أيدي الصيني رين تشينغ فاي، الذي كان يعمل من قبل باحثاً لدى جيش التحرير الشعبي الصيني. بيد أنه وشركته يصران على أن شركة «هواوي تكنولوجيز» لم تقم ولن تقوم أبداً بإنشاء ما تُعرف بـ«البوابات الخلفية» في الأجهزة والمعدات التي تنتجها بغرض التجسس على، أو تعمد تخريب شبكات العملاء في الداخل أو الخارج.
وهناك أقاويل تدور حول منح «هواوي» حق الاستفادة من الشك. أولاً، تميل الشركة الصينية لأن تكون أرخص أسعاراً من منافسيها الغربيين، بما في ذلك الشركات الأوروبية من شاكلة «أريكسون»، و«نوكيا». ثانياً، يبدو أن الشركة الصينية تتحرك في سوق المال والأعمال بوتيرة أسرع من نظيراتها. ففي وقت سابق من العام الجاري، قالت شركة «دويتشه تيليكوم إيه جي» للهواتف المحمولة والاتصالات في ألمانيا إن محاولة طرح تقانة الجيل الخامس في غياب شركة «هواوي» سوف يؤدي إلى تأخير تنصيب الشبكة الخاصة بالشركة الألمانية لمدة عامين على أدنى تقدير مما يضيف على الشركة بلايين الدولارات من حيث التكلفة.
وهناك أيضاً مخاطر تتمثل في أن إقصاء الشركة الصينية على هذا النحو المنشود أميركياً من شأنه إثارة حفيظة بكين على صعيد التجارة والاستثمار. وفي ألمانيا، كانت الجهات البيروقراطية التي تعارض استمرار وجود الشركة الصينية في البلاد هي أجهزة الأمن والاستخبارات ووزارة الداخلية، في حين كانت الاستشارية الألمانية مع وزارة الاقتصاد معنيتين بالإطار الكلي للعلاقات الثنائية الألمانية الصينية الشاملة، وأكثر استعداداً للموافقة على عمل الشركة الصينية في الأسواق المحلية.
وأخيراً، هناك مبادئ العدالة والانفتاح الاقتصادي. وليس هناك دليل يفيد بأن شركة «هواوي تكنولوجيز» قد تجسست بالفعل على عملائها. وجزء مما يجعل المجتمع الغربي «غربياً» أو على الأقل «ليبرالياً» هو أنه لا يغلق أسواقه في وجوه الآخرين من دون إبداء الأسباب الوجيهة لذلك.
وبطبيعة الحال، لدى نقاد شركة «هواوي تكنولوجيز» الصينية الكثير والكثير من الأسباب المسوّغة لاتخاذ قرارات الإقصاء. أولاً، ليس من المعقول ولا المنطقي أن تمتنع أي شركة صينية كانت عن أن تكون ذراعاً من أذرع الدولة وفرعاً من أفرع الحزب الشيوعي الحاكم. وينص قانون الاستخبارات الصيني لعام 2017 على إلزام كل الشركات العاملة في البلاد بالمساعدة في جهود الاستخبارات الوطنية، مع الحفاظ على السرية الكاملة لمثل هذه المساعدات. وكان هناك قانون صيني سابق يضع تعريفاً للأمن القومي الصيني بأنه يشتمل على قطاعات الاقتصاد والثقافة في البلاد.
ثانياً، شبكة الجيل الخامس ليست من شبكات الهواتف القديمة. وعلى العكس من شبكة الجيل الرابع، هي البنية الأساسية للماكينات والآلات الحديثة للتواصل بعضها مع بعض على ما يُعرف باسم «إنترنت الأشياء». فإن عملت بصورة جيدة، فسوف تحوّل مدناً بأكملها من مدن عادية إلى مدن ذكية، مع تمكين السيارات ذاتية القيادة من المسير في شوارعها، في أثناء تبادل لا نهائي لرزم البيانات. على سبيل المثال بجسم الإنسان: إنّ اعتبرنا أن الجيل الرابع يمثل الأذنين، فإن الجيل الخامس يمثل الجهاز العصبي بالكامل. فهل يرغب من أحد في أن تسيطر الصين على جهازه العصبي؟
وفقاً لذلك، فإن المخاوف الغربية لها ما يبررها. فكل من يوفر البرمجيات والمعدات لشبكات الجيل الخامس فسوف يكون له السبق الأول في نقل تلك البراعة والمقدرة إلى شبكات الجيل السادس ثم السابع على التوالي. وبمجرد دخول التكنولوجيا حيز التنفيذ الفعلي، فمن شأن التحديث البسيط لأيٍّ من البرمجيات أن يتحول إلى ثغرة اختراق خطيرة. ومن شأن القياس العادي أن يتمثل في الهاتف الذكي الذي تحمله بحوزتك، عندما تقوم الشركة المصنعة بجدولة تحديث تافه للهاتف وتجد أنه يستنزف البطارية بسرعة فائقة، وكل ذلك يحدث حتى قبل أن تتمكن الشركة نفسها من إطلاق نموذج جديد.
ومن ثم، ينبغي توخي المزيد من الحذر. حتى مع المجازفة بإبطاء تشغيل الشبكة الجديدة، سوف يكون من الحكمة بالنسبة إلى الجهات التنظيمية والرقابية أن تضمن التنوع ما بين الشركات المورّدة للبرمجيات والمعدات الجديدة. كما ينبغي عليها أيضاً اتخاذ أعلى درجات التأمين للأجزاء فائقة الحساسية من البنية التحتية الوطنية. ولا يمكن لقواعد المشتريات التمييز بين الشركات الفردية، ولكن يمكنها بكل سهولة وضع المعايير التي تضمن الموثوقية. وجهات التوريد التي لا تستطيع الوفاء بتلك المعايير بصورة كاملة لن يُسمح لها بالعمل في جوهر أو صميم الشبكات وإنما في الأطراف الخارجية غير المؤثرة منها.
وعلى القدر نفسه من الأهمية، يتعين على الحلفاء في الغرب تنسيق المقاربات فيما بينهم. ومن غير المنطقي أن تقوم الدنمارك بإقصاء شركة «هواوي» في حين أنها تواصل العمل في ألمانيا المجاورة. أما بالنسبة إلى السيارات ذاتية القيادة، والشاحنات، والقوارب، والبضائع ذات العلامات الجغرافية في الحاويات، والمرضى الذين يعيشون بأجهزة مراقبة نبضات القلب: من شأن كل هذه المعدات وغيرها الكثير من نقاط الاتصال المهمة على الشبكات أن تتحرك عبر الحدود المشتركة في البلدان الأوروبية المختلفة، مع استمرار التواصل السحابي من مختلف الخوادم الحاسوبية في الخلفية. ولا بد من الاهتمام بتأمين البيانات بالكامل على جوانب الحدود المشتركة.
كما يتعين على الغرب وحلفائه الاتفاق على موقف مشترك فيما يتعلق بشركة «هواوي» الصينية - ولا بدَّ للاتفاق أن يكون مثالياً فيما يتصل بالصين وبأمن البيانات بشكل عام. وتملك شبكة الجيل الخامس وما يعقبها إمكانات هائلة وكبيرة في حل العديد من المشكلات الإنسانية العالقة. كما أنها تملك أدوات المستقبل القاتم المزري فيما يتعلق بتحويل حياتنا إلى جحيم من المراقبة والاختراق. ويجب على البلدان الديمقراطية الغربية مواجهة هذا الواقع والتعامل معه.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»