سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

رسالة الساحات

كان الجنرال ديغول يقول: «لست في اليمين ولا في اليسار، إنما أنا فوق». ولطالما أوحى الجنرال ميشال عون في بداياته أن ديغول هو أحد النماذج التي يفكّر في الاقتداء بها. غير أن لبنان، كما تأكد مرة تلو أخرى، ليس فرنسا، ولذلك استحال على الجنرال عون أن يكون ديغولَ آخر. تأكد ذلك يوم الأحد الماضي عندما جاء الألوف من الناس إلى القصر الجمهوري يعلنون تأييدهم له، ويحملون أعلام لبنان وأعلام التيار الوطني الحر، أي الحزب الذي أسّسه. وفي نهاية المهرجان وقف يقول: «إن المسألة ليست ساحة في مواجهة ساحة». كلام غير مقنع على الأرجح. فما إن انتهى مهرجانه حتى تدفقت الألوف من جديد على كل ساحات لبنان، وتكرر الشعار الذي بدأت به الثورة «كلّن يعني كلّن» أي السقوط للسلطة السياسية برمّتها.
كنت أتمنى مثل كثيرين غيري لو أن الرئيس عون بقي «فوق»، في القصر الجمهوري الذي سُمّي ذات يوم من أيام الحرب الأهلية، «قصر الشعب». لقد أقحمه «وعّاظ السلاطين» مرة أخرى في مساحة ضيّقة الأفق وضيّقة الصدر، في لحظة تاريخية حرجة كان يُفترض فيها أن يكون للجميع، وفوق الجميع. الأزمات الكبرى تحتاج إلى مواقف مترفّعة، ولبنان في أزمة يُخشى أن يطوّرها وعّاظ السلاطين إلى كارثة. لقد رفضوا أن يصدّقوا ما يشاهدونه كل يوم، منذ أسبوعين، من حشود لا سابقة لها على الإطلاق، من أجل أن يصدّقوا حشداً منظّماً على نحو واضح، شاركت في وضعه مؤسسات السلطة.
الأزمة في مكان والدولة في مكان آخر. بالقليل من التواضع، كان يمكن أن تنتهي في الأيام الأولى. لكن بدل معالجتها، تحوّلت إلى صراع بين السياسيين، وخصوصاً بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء. وكان النزاع قوياً هذه المرة إلى درجة حُيّد معها دور رئيس البرلمان، الذي يقوم في الأيام الصعبة بدور الوسيط والمصلح وصانع التسويات. ربما صحيح أنها ليست ساحة في مواجهة ساحة. لكنها أصبحت الآن عقلية في وجه عقلية أخرى. شبيبة في وجه حرفة قديمة ومطرّزات بهتت ألوانها. كالعادة، رفضت الدولة أن تتعرف إلى خصمها واعتقدت أنه مجرّد صوَر تراها على شاشة التلفزيون، أو تقارير زاهية ومخادعة يرسلها المخبرون. ولم يدرك أحد طبيعة الاعتراض والمعترضين. وظنّوا أنها مجرد إعادة توزيع للحقائب وأصحاب المعالي وأصحاب الحقائب.
كان يُفترض أن تستخدم الدولة لمرة واحدة المكبّر في النظر إلى ما تراه بحيث تقرأ الوجوه والعقول، وخصوصاً القلوب المهانة. لو فعلت لصدّقت أعينها بدل أن تصدّق آذانها التي اعتادت نفاق الوعّاظ.