منذ مطلع عام 2018 حتى اليوم، زاد النظام السوري مساحة الأراضي الخاضعة لسيطرته عبر أرجاء البلاد من نحو 52% إلى 62%، وشكَّلت الـ10% الإضافية أهمية بالغة، وشملت مناطق كانت خاضعة لسيطرة المعارضة في جنوب غربي سوريا والمناطق الريفية من حمص والغوطة الشرقية، علاوة على جيب صغير في شمال المناطق الريفية المحيطة بحمص.
ونتيجة لهذا التوسع -الذي أسهم في تنامي شعور المجتمع الدولي بالسأم والإنهاك إزاء الأزمة في سوريا- تراجعت مساحة المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من نحو 13% إلى 10%. ومع انحسار مناطق تنظيم «داعش» التي أُقيمت بسوريا، ثم هزيمته نهاية الأمر، ظهر إجماع دولي متزايد يرى أن الحرب في سوريا «آخذة في الانحسار».
ما من شك في أن النطاق الجغرافي وحدّة الصراع لم تعد كما كانت عليه خلال ذروة أعمال القتال عامي 2014 و2015، لكنها بالتأكيد لم تنتهِ. في الواقع، لم يحالف الحظ النظام السوري في أهم الاختبارات التي واجهها فيما يتعلق بالسيطرة على منطقة وإرساء الاستقرار بها -في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء جنوب غربي البلاد. الحقيقة أن هذه المناطق لا تزال تعاني غياب الاستقرار على نحو خطير، في ظل وقوع أكثر من 160 هجوماً خلال الأشهر الستة الماضية، تتنوع ما بين إطلاق نار من سيارة متحركة واغتيالات وغارات مسلحة وهجمات منظمة وهجمات بقنابل وكمائن. وازداد حجم ومستوى تعقيد هذه الهجمات على نحو متزايد بمرور الوقت.
وعندما سيطرت قوات موالية للنظام على جنوب غربي سوريا، فإنها فعلت ذلك تحت غطاء «المصالحة»، عملية تلقت من خلالها عناصر مدنية وعسكرية في المعارضة فرصة «للمصالحة» من خلال صدور «عفو» والبقاء داخل ديارها. وبينما لم تتحقق معظم الضمانات المتعلقة بالمساعدات المادية والإنسانية، يبدو من المحتمل أن الخرق شبه المستمر من قِبل النظام لبنود العفو شكّل أهم عامل محفّز لتجدد المقاومة. وأسهمت عمليات إلقاء القبض العشوائية وحوادث الاختفاء المتكررة والتجنيد الإلزامي، في تراجع الثقة في عملية «المصالحة» ورغم وجود قوة شرطة عسكرية روسية قوامها 100 شخص في المنطقة، زاد هذا الوضع القمعي سوءاً بمرور الوقت.
وإلى جانب وعود «المصالحة» التي جرى التخلي عنها، أدت زيادة رهيبة في نقاط التفتيش الموالية للنظام والخاضعة لسيطرة مجموعة مختلفة وغالباً متنافسة من الكيانات والفصائل الأمنية، إلى خلق مشاعر سخط عميقة. ورغم وجود القوات الجوية السورية وإدارات للأمن العسكري والسياسي، علاوة على الفرقة الرابعة مشاة ميكانيكية، أصبح السكان المحليون مدركين على نحو متزايد ومتخوفين من ومعادين تجاه شبكة من المناصب التي يسيطر عليها عملاء لـ«حزب الله» اللبناني.
والملاحظ أنه في الوقت الذي تحولت أنظار النظام السوري وروسيا في اتجاه آخر، استثمرت إيران «وحزب الله» بقوة في إعادة إقرار وجود لهما في جنوب غربي سوريا، على مقربة شديدة من إسرائيل.
وبينما اعتمدت استراتيجية إيران داخل سوريا منذ عامين فقط على كثير من العناصر غير السورية، فإنها اليوم تبدو معتمدة بصورة شبه كاملة على سوريين. وفي الوقت الذي تعمد عناصر من إيران و«حزب الله» مرابطة في الصحراء السورية الشرقية إلى تجنيد عناصر من مجتمعات السنة المحلية، بل والدروز، فإنه حتى هذه اللحظة يبدو أن الاستراتيجية الإيرانية بالجنوب تتركز حول أربع منشآت عسكرية أساسية -في مدينة درعا (يديرها «حزب الله»)، ومنطقة اللجاة، وأدخل قاعدة للواء 52 (يديره إياد قاسم، القائد بـ«حزب الله») وقاعدة الصابر (التي يديرها مصطفى مغنية، عضو «حزب الله»).
وأدى كل ذلك وغيره من العوامل -منها الفساد والبطالة والمساعدات الإنسانية غير الكافية والمساعدات الشحيحة في مجال إرساء الاستقرار- إلى خلق ظروف مواتية لعودة أعمال المقاومة المسلحة من جديد. ومن الواضح أن معظم الأسباب الجذرية للصراع في سوريا تفاقمت جراء تركها دون علاج حتى هذه اللحظة.
وتبعاً لما أفادت به ثلاثة مصادر منفصلة على معرفة وثيقة بالمعارضة في جنوب سوريا منذ عام 2011، فإن جزءاً كبيراً من الهجمات التي وقعت خلال الأشهر الأخيرة تشكّل جزءاً من حركة مقاومة مسلحة منظمة ناشئة تضرب بجذورها في الأيام الأولى للمقاومة المسلحة للنظام في درعا في ربيع وصيف 2011، وبدأت أعداد صغيرة من الخلايا المكونة على أسس قبلية وعائلية بصورة أساسية، في تشكيل كيانات شبه مستقل بعضها عن بعض ولا تزال حتى الآن معتمدة على مخازن سرية للأسلحة والذخيرة والمتفجرات خبّأتها الجبهة الجنوبية التابعة للجيش السوري الحر قبل انطلاق عملية «المصالحة» في يوليو (تموز) 2018، ولم تبذل أي محاولات رسمية لتوحيد أو فرض طابع مركزي على هذه الجهود حتى الآن، وإن كان بعض الخلايا على علم بوجود بعضها والعمليات التي تنفّذها خلايا أخرى.
ورغم أنه يبدو من غير المحتمل بدرجة بالغة أن تتحول مثل هذه النشاطات المسلحة المحلية إلى أي شيء يشبه ما عاينّاه في سوريا خلال السنوات الماضية، فإنها تظل مهمة. الحقيقة أنه في الوقت الذي لا يزال النظام السوري يعاني من نقص شديد في القوة البشرية بينما يلتهم الصراع في إدلب وربما لاحقاً في شرق سوريا موارد قيمة، فإن وجود أي مستوى من المقاومة المسلحة المستمرة سيخلق تحدياً خطيراً أمام الاستقرار السوري. ومن دون وجود عملية سياسية حقيقية وعادلة وإنجاز تغيير حقيقي على الأرض، فإن تصاعد هذه المقاومة يشكل نتيجة حتمية.
المؤكد اليوم أن الحرب في سوريا لم تنتهِ على الإطلاق، وإنما تبدلت طبيعتها فحسب. ومع أن عجز «القاعدة» و«داعش» على معاودة الظهور كعامل فاعل قوي في جنوب سوريا يعد أمراً مطمئناً، فإنه لا يشكل ضمانة على الأمد البعيد على الإطلاق.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:2 دقيقه
TT
جنوب سوريا نموذج للحرب الجديدة في البلاد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة