فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مالوي ناي وبورديو... سياسات الثقافة الجمالية

في مشهدٍ فني فكاهي، يقف الممثلون أمام إطارٍ خشبي شبيه جداً بحائط تطبيق «إنستغرام»، وعبر نوافذه يطرحون بعض الاختيارات والأذواق، مصحوبة بالتهكّم الشديد من تحول الشكل والذوق والبحث عن «الرقيّ» إلى إدمانٍ جماعي، رسالة وعظية ارتجالية ربما تنبهنا للبحث فيما تبثّه الوسائط الاتصالية من تطقيمٍ للأذواق، والسعي من دون تخطيط بالطبع لمرحلة يتشابه ويتشاكل فيها البشر في اختيارات اللباس وأماكن السفر والفنون.
والحديث عن الذوق واللون ليس وليد اليوم، وإنما الفرق يكمن في تحويله إلى نمطٍ استهلاكي بين الشركات الملحّة بإعلاناتها المثابرة، وبين المستهلك المأخوذ بالذوق واللون المتهافَت عليه من معظم الناس. كان نيتشه يعتبر الوجود صراعاً بين الأذواق والألوان، وهو لم يتوانَ عن تذوّق موسيقى، ومن ثم رفضها، ولفظها، كما فعل مع رفيق دربه ريتشارد فاغنر، ولاحقاً هاجم الموسيقى الألمانية كلها كما فعل بشكلٍ مسبب بكتابه: «ما وراء الخير والشر»، وبهجاء مرسل في كتابه: «هذا هو الإنسان».
وفكرة الرقي والذوق طحنتْها البحوث الاجتماعية، باعتبارها منجماً لعلامات التراتبية الاجتماعية، يبحث مالوري ناي وراء ستيورات هول المنطلق من «اكتشاف التباين» فيما يتعلق بالسلطة والثقافة: «ليست الثقافة الشعبية ببساطة الثقافة الجماهيرية، وليست ببساطة الثقافة من منطلق ما يفعله الناس، إنها أيضاً متباينة مع ما يرى أنه ملائم أو ثقافة راقية». ولم يرَ ناي أن الفرق بين ذوقٍ وآخر من حيث التراتبية بمعنى تطوير الذوق سعياً نحو البرجوازية يعود إلى الاسم الفني، وإنما في كيفية استخدامه اجتماعياً ضمن صراع فرض علاقات السلطة، يضرب على ذلك هذا المثال: «يحتمل أن تكون الأقراص المضغوطة التي تحمل موسيقى (بريتني سبيرز) بالفعل توزع أكثر من تلك التي تحمل موسيقى موزارت، لكن موسيقى موزارت لا تزال واحدة من قائمة الموسيقى الأكثر رواجاً. لا يزال الناس يستمعون إلى موسيقى موزارت، ومن ثم فإنها شعبية من منطلق أن الناس لا يزالون يستخدمونها. بالطبع تستخدم موسيقى موزارت في وسائل ثقافية شعبية وجماهيرية كثيرة مثل الأفلام والإعلانات التلفزيونية. إن الاختلاف الواضح بين الاثنين الذي يجعل بريتني سبيرز جزءاً من الثقافة الشعبية أكثر من موزارت يكمن في كيفية استخدام الموسيقى الخاصة لكل منهما، وبالتحديد كيفية كون المنتج الثقافي الخاص بكل منهما جزءاً من علاقات فرض السلطة».
والبحث هنا عن رتبة الذوق، يختلف عنه في مجالاتٍ فلسفية أخرى حول الحكم على المنتج الفني، مع تداخلٍ نشهده في سياق السجال. الفكرة بالتحديد هدفها التقصي وراء «السياسة الثقافية للجماليات» ومعيار تحديد «الجيد» من «التافه»، وهذه المساحة يعتبرها ناي مرتبطة لا بأمر الجودة أحياناً، حين الحديث عن السيئ والجيد، بل «إنني أقول ذلك من منطلق من أكون وما هي مكانتي في المجتمع، فما يرى أنه جيد جمالاً أم صقلاً أم فناً إنما يحدد من خلال الثقافة والتمييز الثقافي اللذين يحددان من خلال العلاقات الاجتماعية القوية».
مالوي ناي لم يتجاوز بيير بورديو حين تحدث عن مسألة الذوق، فعرج عليه سريعاً، لأن تجاوز مسألة مثلها تكون ناقصة المعالجة من دون العودة لكتاب بورديو: «مسائل في علم الاجتماع». وفيه ينتقد زمرة المتسلطين بأذواقهم، ويذكر بمقولة كانط حول «التمييز والتثمين»، يقول: «يمكننا أن نستدل بلا ريب على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد، أو، إذا آثرنا على الشأن أنه (راقٍ) من خلال الموسيقى التي يفضلها، أو بكل بساطة المحطات الإذاعية التي يستمع إليها، كما من المشروبات الفاتحة للشهية التي يتناولها».
وفي محاضرة لبورديو ألقاها في جامعة «نوشاتيل» في مايو (أيار) 1980 بعنوان: «تحوّل الأذواق» (نشرت ضمن كتابه «مسائل في علم الاجتماع») بدأها بالسؤال الآتي: «كيف تتغير الأذواق؟ هل يمكننا أن نصف علمياً منطق تحوّل الأذواق؟»، ثم يبدأ: «كي تكون هناك أذواق يجب أن تكون هناك سلع مصنفة، ذات ذوق جيد أو رديء، مميزة أو سوقية... وأشخاص يملكون مبادئ التصنيف والأذواق، تتيح لهم أن يميزوا بين هذه السلع تلك التي تلائم أذواقهم... الأذواق إذن، باعتبارها مجموعة خياراتٍ تمت من قبل شخص محدد هي نتاج التقاء بين ذوق الفنان المسقط وذوق المستهلك». كما أن تطور الإنتاج الموسيقي من أسباب تحول الذوق، ثم يشرح: «يكفي أن نضع في أذهاننا أنه لا توجد ممارسة تصنف الفرد وتميزه، أي تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالطبقة الاجتماعية، وبرأس المال المدرسي المكتسب، أكثر من التردد على الحفلات الموسيقية، أو العزف على آلة موسيقية نبيلة، أندر حتى من التردد على المتاحف أو على أروقة الفن على سبيل المثال، كي نفهم أن الحفلات الموسيقية كانت مهيأة سلفاً لتصبح واحدة من الاحتفالات البرجوازية الصغيرة».
وبذروة الجدل العلمي حول الرقي والذوق، وعلاقاته، ضمن سلطات وسياسات التراتبية الاجتماعية، تحتفظ الأذواق بأواصرها التي تبثها معها، فالشكل الجمالي الذي تؤمنه الحفلات الموسيقية المعنيّة بالرقي تحمل معها شبكتها الاقتصادية، بل وفكرة المتذوق الدينية (كما استند بورديو على ماكس فيبر بالمحاضرة آنفة الذكر)، وكذلك الأمر بالحفلات الجماهيرية.
لحسن حظّ الفنون أن دخلت الموسيقى ضمن البحث الاجتماعي لفهم سياسات الذوق، وعلاقاتها بالتراتبية الاجتماعية وصراع السلطة والثقافة، أُدخلت الموسيقى غالباً كمعيار للفهم الاجتماعي، ولكنها أضحت شريكة في الزحزحة والإلغاء والإبداء والإعادة انطلاقاً من تجدد موضاتها، ودورها في خنق الأذواق، وخلق ألوانٍ أخرى جديدة، لتحمل معها مجدداً رموزها وعلاقاتها وسلطاتها».