شارلز ليستر
- زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط
TT

«القاعدة» يتجه إلى «لا مركزية الإرهاب»

سقط حمزة؛ النجل المفضل لأسامة بن لادن، صريعاً، وفقاً لإفادات كثير من رجال الاستخبارات الأميركية غير المعروفة هوياتهم، ولا تزال تفاصيل الأمر عن متى (في وقت ما قبل عامين)، وكيف (ربما بغارة جوية)، وأين (في أفغانستان على الأرجح)، وبواسطة من (الأمر يتضمن الولايات المتحدة)، غير واضحة حتى الساعة.
ووفقاً لبعض المصادر الأفغانية، أمضى حمزة بن لادن بعض الوقت في وادي سلطان بمحافظة كونار شمال شرقي أفغانستان في يناير (كانون الثاني) 2019؛ حيث كان مقيماً مع قائد «عسكر طيبة»؛ المعروف باسم «معاوية». ووفقاً لحمزة نفسه، فإن أحد أبنائه لقي مصرعه في غارة جوية محتملة في أفغانستان عام 2017. لذلك؛ من الواضح أنه كانت هناك محاولات لتعقب آثار حمزة من قبل أولئك الذين تمكنوا من اغتياله أخيراً؛ وفق بعض الافتراضات.
منذ ظهوره في أغسطس (آب) عام 2015، كان حمزة بن لادن يؤهل، من وجهة نظر كثيرين، لتولي القيادة العالمية لتنظيم «القاعدة» من زعيمه الحالي أيمن الظواهري. وأعلن التنظيم نفسه أن حمزة هو «الأسد الشاب» الذي سيدفع «قضية الجهاد إلى الأمام». لكن مع تنحية الافتراضات التي شاعت أول الأمر في الغرب، لم يكن من الواضح مطلقاً ما إذا كان حمزة بالفعل هو الخليفة الحتمي لأيمن الظواهري على رأس التنظيم؛ أم لا. وفي واقع الأمر، قلما جذبت خطاباته المتطرفة مستوى الاهتمام أو الحماس نفسه الذي كان يأمله تنظيم «القاعدة».
وعندما قدم التنظيم صوت حمزة بن لادن إلى العالم في صيف عام 2015، كان التنظيم نفسه في خضم واحدة من أحلك فترات وجوده تحدياً وصعوبة. فلقد شكل الصعود الصاروخي لتنظيم «داعش» الإرهابي في سوريا والعراق، وإعلانه «الخلافة» مع التوسع السريع عبر مختلف أرجاء العالم، تحديات - وربما القول أدى إلى هزيمة - لموقف تنظيم «القاعدة» البارز بوصفه زعيم التمرد المتطرف الأول على مستوى العالم. وفي الأثناء ذاتها، بدا أيمن الظواهري على نحو أكثر انفصالاً عن الأحداث العالمية الجارية، وأكثر بعداً عن فروعه الموالية في سوريا، واليمن، وشمال أفريقيا، وما وراء ذلك، وأكثرهم من أتباع استراتيجيات النأي بالنفس عن مركزية تنظيم «القاعدة». وبالتالي، فإن توقيت الدفع بحمزة بن لادن إلى الواجهة لم يكن من قبيل المصادفة. وعلى غرار والده، كان المأمول في حمزة إعادة توحيد صفوف تنظيم «القاعدة» عالمياً في الوقت الذي يشهد فيه التنظيم تحديات لم يسبق لها مثيل من قبل.
لكن المعروف أن حمزة لم يكن من مقاتلي التطرف. ولم يشارك في أي حرب أو يقود الجنود في ساحة المعارك. وكان ادعاؤه القيادة يستند إلى اسمه ونسبه لوالده فقط. ولم يكن ذلك كافياً بحال مع مرور الوقت. فلقد كان تقديمه المفاجئ إلى العالم انعكاساً لحالة الضعف والوهن التي يعانيها التنظيم، وليس تعبيراً عن قوته وبأسه المستمر كما يزعم. وفشل حمزة في حيازة القدر نفسه من الشهرة الذي حازه والده من قبل، يؤكد تحول القيادة المركزية المنفصلة للتنظيم من التخطيط الاستراتيجي إلى القتال التكتيكي على مستوى ساحات المعركة. وعند مقارنة أيمن الظواهري بأسامة بن لادن، أو أبو مصعب الزرقاوي، أو أبو بكر البغدادي، فإنه يملك شخصية كاريزمية استثنائية، وكانت خطبه المطولة تأتي في صورة المحاضرات الأكاديمية الصادرة عن بروفسور محنك أكثر من أنه قائد لـ«جيش الجهاد العالمي»!
مع الهزيمة التي تكبدها تنظيم «داعش» الإرهابي في وقت سابق من العام الحالي في سوريا والعراق، سنحت الفرصة أمام تنظيم «القاعدة» لاستعادة بعض من النفوذ والزخم المفقود خلال السنوات القليلة الأخيرة. لكن مع مقتل حمزة وبقاء الظواهري على رأس «القاعدة»، يكون التنظيم قد فقد آخر ركن من أركان بن لادن، وبقي لديه زعيمه غير الملهم الذي يعاني من تدهور بالغ في حالته الصحية. ومع المضي قدماً، فسيحتاج الظواهري، مع نوابه الاثنين في إيران - سيف العدل وعبد الله أحمد عبد الله - إلى إعادة تعريف ما يمثله التنظيم اليوم مع استئناف آلية ذات كفاءة وفعالية للقيادة والسيطرة أفضل من ذي قبل، هذا إن كانوا يأملون فعلاً في استمرار قيادة دفة الحركة العالمية المتحدة والمتماسكة.
وإلى الآن، فإن المسار الواضح لتنظيم «القاعدة» يميل إلى اللامركزية. وهذا ليس من تطورات الأوضاع المشجعة بحال؛ إذ إن منظمات التطرف العنيفة، التي ينفصم زعماؤها عن مركزية القيادة، تلجأ بطبيعة الحال إلى الانخراط المتزايد، وربما المستدام، ضمن فعاليات وديناميات الصراعات المحلية نائية بذاتها عن مجريات الصراع العالمي الأكبر، مثلما تفيدنا دروس التاريخ. وكان من نتائج هذه النزعة أو الاستراتيجية «المحلية» أن أجبرت أذرع «القاعدة» على التكيف والتماهي والتطور وفق أساليب تتعارض، وربما تتحدى، الفرضيات الكلاسيكية لهوية تنظيم «القاعدة»، وباتت تشكل - بمزيد من الأهمية - تحديات خطيرة وغير مسبوقة بالنسبة لخصوم التنظيم.
ففي سوريا؛ تسند «هيئة تحرير الشام» قدراً كبيراً من السلطة إلى حكومة التكنوقراط، وتدير الانتخابات الدورية للمجالس المحلية، وتتفاعل - بكل هدوء وتأنٍّ - مع المبادرات الدبلوماسية الدولية، وتسعى إلى ترتيب الحوار السياسي مع الحكومات الأجنبية، بما في ذلك الحكومات الغربية. وفي الأثناء ذاتها، تبنّى ذراع «القاعدة في بلاد المغرب العربي» سياسة عامة متمثلة في الدعم «المجرد» للاحتجاجات السلمية في الجزائر، في حين أنه يخوض الحروب الضروس في البلدان الأخرى المجاورة للجزائر. بيد أن هذه المواقف لا تعكس بالضرورة اعتدالاً في منهجية تنظيم «القاعدة»؛ فهذه التنظيمات لم ولن تتخلى أبداً عن معتقداتها المتطرفة، غير أنها مواقف تظهر قدراً لا بأس به من النضج السياسي.
كيف يتسنى للغرب مواجهة فروع «القاعدة» التي يحاول عناصرها التماهي والانخراط التام ضمن مختلف مستويات المجتمع، والذين يكرسون طاقاتهم لبعض المعارك نفسها التي تدعمها الحكومات الغربية بصفة غير رسمية أو مباشرة؛ اليمن مثالاً؟ وكيف يمكن للحكومات الإقليمية مكافحة فروع تنظيم «القاعدة» التي يحاول بعض أفرادها بذل مزيد من الجهود في حماية السكان المدنيين من القمع والوحشية الصادرة عن الحكومات الإقليمية نفسها؛ سوريا مثالاً؟ وكيف يمكن لأي حكومة تحدي فروع تنظيم «القاعدة» التي تتخذ موقفاً عاماً داعماً للاحتجاجات السياسية السلمية؛ الجزائر مثالاً؟
إن هذه المعضلات هي من بين الكثير مما يتحتم على حكوماتنا الانتباه إليه والتصدي له خلال السنوات المقبلة؛ إذ إن التهديدات التي يشكلها عناصر تنظيم «القاعدة» لا تقل أهمية الآن عن أي وقت مضى، ولا بد من التعامل معها بكل حزم وجدية. بيد أن ردود الفعل من قِبلنا إزاء هذه التهديدات لا بد من أن تتسم بمزيد من الحنكة والذكاء مع ضرورة استنادها إلى الحقائق المحلية أكثر من أي وقت سبق.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»