عندما تشرق الشمس في لندن، وترتفع درجات الحرارة قليلاً، تدعوك مساءات هذه المدينة إلى المشي في شوارعها الجميلة. وإذا كنت تسكن عند تخومها، تكون الطرقات أهدأ والخضرة أوفر، فتجد نفسك تائهاً في السكينة، ومنجرفاً في المشي عند مغيب الشمس، الذي يعد من أكثر المصطلحات المتداولة في بريطانيا، لأنها بخيلة بظهورها، تماماً مثل إطلالات «سفيرتنا إلى النجوم» السيدة فيروز.
تلك الأمسية، حدث معي شيء لم أختبره من قبل؛ كنت أمشي بخطى سريعة، بعد دقائق من اختفاء الشمس وراء الأفق من دون إعلامنا بموعد زيارتها من جديد، فجأة سمعت صوتاً إلكترونياً شدني، توقفت فرأيت رجلاً في منتصف الثلاثينات، طويل القامة، يرتدي بدلة رسمية أنيقة، تعجبت من الصوت المنبعث منه، وبلحظة استوعبت الحاصل، وتنبهت إلى أن هذا الرجل الوسيم كفيف، بعدما رأيت العصا في يده اليمنى، وهاتفه الجوال بتطبيق ذكي جداً في يده اليسرى، وفهمت بسرعة أن الصوت الذي سمعته ليس سوى الدليل الذي يرافق هذا الشاب في رحلاته أينما حل، ويدله على أرقام البيوت وعناوينها... لأول مرة في حياتي أتوقف مكتوفة اليدين، وحائرة ماحية سرعة البديهة في التصرف؛ سألت نفسي: «ماذا أفعل؟ أسأله إذا كان بحاجة لمساعدة؟ هل سأجرح شعوره؟ هل تدخلي سيسبب القلق له؟». أسئلة كثيرة دارت في ذهني في أقل من دقيقة شعر فيها الرجل بوجودي قربه، فقررت أن أتدخل، فسألته قائلة: «هل أنت بحاجة لمساعدة؟»، فأجاب: «أبحث عن المنزل رقم 78» (في لندن، أرقام البيوت تكون غالباً مزدوجة، وتتوزع على جهتي الطريق). وفي هذه الحالة، كان من الضروري التوقف للحظة لمعرفة ما إذا كان يمشي في الجهة الصحيحة من الطريق، فرحت أمشي بخطى صغيرة جداً بالقرب منه. وهنا، شعرت بشيء غريب، ولمت نفسي لأنني لم أحضر نفسي من قبل لموقف مماثل، فقرأت له الرقم الذي أراه على الجهة التي نمشي بمحاذاتها، وقلت له: هل تمانع أن أمشي معك، فأنا أسكن في هذا الشارع، وهذه هي طريقي في جميع الأحوال، فأجاب مع ضحكة في طياتها الجدية: «لا أمانع، ما دامت لن تسرقي متعلقاتي»، ضحت وقلت: لا تقلق، لن أسرق أي شيء منك، فقط أريد المشي معك، وإيجاد المنزل الذي تنوي زيارته.
قاطعني وأنا أسرد أرقام البيوت، قائلاً: «الرقم الذي أريده يقع في الجهة المقابلة، وليس في هذه الجهة»، بالفعل كان الأمر كذلك، نظرت ووجدت الرقم المطلوب. وفي هذه اللحظة، واجهت موقفاً آخر لم أعتده من قبل: هل أمسك بيده؟ هل أتركه بسبيله؟ تلبكت فعلاً وقلت: «هيا بنا نقطع الطريق»، ووصفت له الوضع، خصوصاً أن هذا الشارع عريض جداً، ونحن نقطعه بطريقة غير آمنة مائة في المائة، نسبة لموقع المنزل.
وأخيراً، وصل إلى منزل أصدقائه. انتظرت إلى أن قرع جرس الباب، وشكرني قائلاً: «شكراً لك سيدتي، أتمنى لك ليلة سعيدة».
تابعت سيري إلى منزلي الذي يبعد أقل من دقيقة من منزل أصدقائه، وخجلت من نفسي كثيراً لأني لم أعرف كيف أتصرف مع أعمى جعلني أشعر بالعمى، فأنا أسكن في هذا الشارع منذ ست سنوات، ولم أبذل أي جهد في النظر إلى أرقام البيوت، وعشت أكثر من نصف عمري في لندن، ولم أثقف نفسي لأكون حاضرة للتعامل مع موقف مماثل. واليوم، وقبل كتابة هذه السطور، اكتشفت أن العم «غوغل» لديه دليل كامل يعلمك كيف تتعامل مع المكفوفين، وينصح بالأشياء التي يجب فعلها، والأشياء التي يستحسن تفاديها، وأنصح الجميع بقراءتها.
المكفوفون لا يرون، ولكنهم يبصرون، ونحن في بعض الأحيان نرى ولا نبصر.
7:52 دقيقه
TT
نحن أعمى من العميان
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة