عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

يوم أعلن البرلمان الحرب على الديمقراطية

العبارة المتناقضة ذاتياً تعبر عن أخطر أزمة تواجه أقدم الديمقراطيات منذ الحرب الأهلية الإنجليزية (1642 - 1651).
كيف استخدم النواب، حكومة ومعارضة، الأدوات الديمقراطية لوقف تنفيذ قانون صدر عن البرلمان نفسه، بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في 29 من الشهر الحالي، بحيلة تأجيل الموعد ثلاثة أشهر، ثم تلويح نائب رئيسة الوزراء عقب التصويت بتمديد فترة التأجيل لعامين أو أكثر في حالة رفض المجلس الصفقة التي توصلت إليها الحكومة مع الاتحاد الأوروبي، وهي استقلال صوري لا عملي ويظل الحكم لبروكسل؟
كيف تمكن البرلمان من «اغتيال» الديمقراطية في قول النائب المحافظ، أندرو بريدجين، المتحدث باسم مجموعة الخروجيين المحافظين الذين صوّت مائة منهم برفض التأجيل، لكن وضعت أحزاب المعارضة يدها في يد الحكومة فغلبت الكثرة الديمقراطية؟
اللعبة الديمقراطية تعتمد على حساب الأرقام.
في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016 صوّت 17 مليوناً وأكثر من 400 ألف من الناخبين بخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي المسرع كقطار إكسبريس نحو دولة فيدرالية على حساب الدولة القومية واستقلال قرارها السيادي؛ مقابل 16 مليوناً ومائة ألف صوتوا بالبقاء. فارق 4.4 في المائة وهو الأكبر في أي انتخابات منذ الحرب العالمية، فالفارق بسيط جداً في الديمقراطيات الحية الفاعلة لا الصورية.
في انتخابات 2017 فازت الأحزاب التي وعد برنامجها الانتخابي «بتنفيذ قرار الشعب بالخروج من الاتحاد الأوروبي» بـ88 في المائة من الأصوات مقابل 12 في المائة لأحزاب أرادت تعطيل الخروج عن طريق استفتاء ثان.
406 من الدوائر الانتخابية صوتت غالبيتها بالخروج من الاتحاد مقابل 242 بالبقاء، ودائرتان تساوت النسبتان فيهما.
وصوتت تسع من المقاطعات الجغرافية بالخروج مقابل ثلاث مقاطعات معظمها في اسكوتلندا صوتت بالبقاء.
نواب مجلس العموم يعكسون الآية: فأكثر من الثلثين يتحايلون عبر الإجراءات البرلمانية لإبقاء البلاد في الاتحاد رغم أن توصية بإجراء ثان قدمت للمجلس مساء الخميس منيت بهزيمة ساحقة (434 صوتاً ضد مقابل 85 صوتاً مع).
ولأن لرئيس المجلس (speaker) القرار النهائي لاختيار التوصيات، والتعديلات التي تطرح للتصويت، فخياراته تحدد المسار التاريخي.
فقد رفض الرئيس، الخميس، تعديلاً قدمه 100 نائب لإدخال تعديلات على صفقة رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، مع بروكسل تضمن قبول المجلس القرار الذي رفضه مرتين، في حين قبل تعديلاً قدمه كبير مجموعة الموالين لبروكسل كان سيؤدي إلى سيطرة كاملة للبرلمان (وأغلبيته في مجلسي العموم واللوردات يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي) لاستخدام ألاعيب القرارات البرلمانية لإبقاء البلد في الاتحاد، وفوجئ البقائيون بهزيمة المشروع بصوتين فقط (314 مقابل 312).
وبدلاً من أن تستغل الحكومة هذه النتيجة لتقوية يدها في التفاوض مع بروكسل، وتستجيب لإرادة الشعب، فإنها أضعفت موقف البلاد بتقديم مشروع قرار خيار تأجيل طلب الخروج يوم 29 مارس (آذار)، أي تعطيل تنفيذ إرادة الشعب.
طرحت التساؤلات عن وجود أجندة سرية بإبقاء البلاد في الاتحاد الأوروبي عن طريق إطالة أمد المفاوضات وهي في مصلحة الاتحاد الأوروبي. فاستمرار التفاوض، يعني استمرار دافع الضرائب البريطاني في المساهمة بثاني أكبر تمويل لميزانية الاتحاد، واستمرار حرية حركة التنقل لمهاجري بلدان الاتحاد للعمل في بريطانيا فيخفضون أجور العمال الإنجليز، والنقص في ميزان الصادرات والواردات لصالح أوروبا، ومنع بريطانيا من توقيع اتفاقيات تجارة ثانوية مع طرف ثالث، دون أن يكون للمملكة المتحدة تمثيل في المفوضية أو البرلمان الأوروبي الذي تجري انتخاباته بعد شهرين في غياب بريطانيا.
كيف وصلت البلاد لهذا المنحدر؟ أمر - لا شك - سيدرسه المؤرخون واستراتيجية معسكر البقائيين (ولهم إمكانيات هائلة من المصالح التجارية الكبرى والبنوك ومؤسسة الصحافة التلفزيونية) التي وظفت الوسائل الديمقراطية لمحاولة اغتيال الديمقراطية.
حرية التعبير والرأي التي تكفلها الديمقراطية، استغلتها الشبكات الإذاعية التلفزيونية وأغلبها موالٍ لبروكسل في تغطية استخدمت ألاعيب صحافية سنوضحها في مقال آخر.
الساسة، خاصة الوزراء، أظهروا أنهم ديمقراطيون تعهدوا بتنفيذ إرادة الشعب. الوزراء البقائيون أضافوا كلمة «ولكن» (الاشتراطية)، لئلا يكون الخروج على حساب المصلحة الاقتصادية، وربطوها بتعبير مبتكر «البريكست الناعم»، و«البريكست المتشدد».
أو استخدموا «التقية»، كرئيسة الحكومة التي رددت «البريكست يعني البريكست».
وعمليا؟
وزير المالية فيليب هاموند، مدد عقد عمل محافظ بنك إنجلترا الكندي الجنسية المتحمس للبقاء في الاتحاد، فوظف إمكانيات البنك لنشر تقارير تبالغ في خطورة الخروج على الاقتصاد. الوزير لم يعطِ الأوامر للخزانة بأن تخصص ميزانية رفض الصفقة لإقناع المفاوض الأوروبي بأن الخروج بلا صفقة أفضل من صفقة سيئة.
ثم ابتكروا عبارة «نعم الشعب صوت بالخروج لكن لم يصوت أحد للفقر»، وربطوا العبارة «باستراتيجية ترويج الخوف»، وبربط تكهنات بنك إنجلترا ومجموعة من الاقتصاديين والماليين بانهيار الجنيه الإسترليني وارتفاع الأسعار، ولم يبق أي مجال نشاط اقتصادي إلا وتكهنوا بتضرره من الخروج.
والتجأوا إلى حيلة التشكيك في صحة الإجراءات الانتخابية.
وبعد اتهام الروس بالتدخل عبر وسائل التواصل الاجتماعي في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ربط البقائيون بين المؤسسة المدانة في أميركا، كمبريدج أناليتيكا، و«فيسبوك» في بريطانيا، وخطرت لهم فكرة ربط الروس وبوتين بحملة الخروج.
وروّج المسيطرون على صناعة الرأي العام فكرة أن الشعب لم يكن يعرف ما يريد وأنه أساء الفهم ولا بد من إعطائه فرصة ثانية باستفتاء آخر. أغلبية الصفوة كانوا مع حملة البقاء، وروجوا، كذباً، أن من صوتوا للخروج هم من اليمين، (وأضافت الصحافة التلفزيونية «المتطرف» عند كل ذكر)، ومن العنصريين ومُعادي الأجانب، ومن دعاة العنف أو مخرفي الشيخوخة الحالمين بأنهم في عهد الإمبراطورية.
الضربة القاصمة كانت حيلة التصويت في البرلمان بإجبار الحكومة على الالتزام بالتوصل إلى اتفاق مع بروكسل قبل الخروج، الأمر المخالف لقواعد التفاوض؛ لأن الطرف الآخر يجبرك على القبول بأي صفقة. وهو ما حدث مع اتفاق السيدة ماي الذي لا تقبل به جمهورية موز؛ وهي تعرف مقدما أن الخروجيين لن يقبلوا به، وبالطبع سترفضه المعارضة نكاية بها.
والنتيجة؟
التأجيل الذي وصلنا إليه بخطة محسوبة.
ومن المتوقع أن يستغل البقائيون التهديد بتمديد تأجيل الخروج، ليصوتوا برفض الاتفاقية طمعاً في الاستمرار عملياً تحت مظلة بروكسل، انتظاراً لإعداد طبخة مع رئيس المجلس لاستخدام أدوات برلمانية لإلغاء قرار الخروج، أو يصوتوا بقبول صفقة ماي مع بروكسل، وتعني البقاء عملياً في الاتحاد.
كلا الخيارين اغتيال لإرادة الشعب الذي سيفقد الثقة بالديمقراطية بوصفها أهم القيم وأسس الحياة السياسية في البلاد.