براين تشابتا
TT

التركة الأكبر في العالم بعد «أزمة ليمان»

تبدو الأحاديث الدائرة عن البنوك المركزية العالمية ودخولها في مرحلة «التعديل الكبير» بعد التحفيز النقدي غير العادي أمرا غريبا. إذ كيف لمسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يزعموا لـ»بنك اليابان» أنهم يعرفون كيف يقلبون حقيقة ما فعلوه خلال العقد الماضي؟ أنا هنا أتحدث تحديدا عن تعزيز الأسواق المالية بالمال السهل والسماح بتضخم ديون العالم إلى نحو تخطى 250 تريليون دولار.
فقد أبقوا على سعر الفائدة عند حدود الصفر أو أقل لفترة طويلة جدا، واستخدموا برامج شراء السندات لتقليص العائدات السيادية ولعقاب المدخرين وللارتقاء بمستوى الاستهلاك والمخاطرة. فقد تضخمت الديون العالمية خلال العقدين الماضيين: من 84 تريليون دولار عند بداية القرن، إلى 173 تريليون دولار وقت الأزمة المالية العالمية في 2008، وإلى 250 تريليون دولار إثر انهيار «مؤسسة ليمان برذرز هولدينغس».
إن الحكومات مسؤولة بدرجة كبيرة عن فوضى القروض وعن زيادة ديونها ليس بصورة اسمية فحسب، بل بنسبة مئوية لإجمالي الناتج العالمي.
ليس الجميع يعملون على تراكم الديون. فبفضل قوانين ما بعد الأزمة، فقد أصبحت المؤسسات المالية أفضل حالا وأكثر قدرة على تحمل صدمات جديدة. فقد زادت ديونهم على مدار العقد الماضي لتتخطى ثلاثة تريليونات، لتنخفض نسبة الدين لإجمالي الناتج العام لأدنى مستوياتها على الإطلاق.
لكن شركات أخرى كانت قدر المسؤولية واستفادت من سعر الفائدة الذي هبط إلى الحضيض وعملت على زيادة أرباحها بعد أن كانت تلك الشركات تكسب أقل من المؤسسات المالية. فبعد بلوغ المديونيات 27 تريليون دولار فيما بعد، باتت الالتزامات بحجم إجمالي الناتج العام العالمي. فالأسر حول العالم تبدو على حالها منذ 10 سنوات، وكنسبة مئوية لإجمالي الناتج المحلي، فقد تغير الدين بالكاد. لكن هذا يعتمد على المكان الذي تنظر إليه. فلو أننا حددنا مجالا بعينه، فقد انخفضت ديون الأسر في الأسواق المتطورة مثل ألمانيا واليابان والمملكة المتحدة وكندا. وفي الصين، في المقابل، فقد تراكمت ديون الأسر لتبلغ 6.5 تريليون دولار، مقارنة بمبلغ 757 مليار دولار في 2008.
الآن وبعد مرور 10 سنوات على انهيار مؤسسة «ليمان بروذرز» فقد أصبحنا نرى نتائج تجربة البنك المركزي الأهم في التاريخ. على السطح، يبدو أن المهمة قد أنجزت، ففي الولايات المتحدة، فإن معدل البطالة في أدنى مستوياته منذ 48 عاما، وبلغ مؤشر سوق المال «إس أند بي 500» مؤخرا أعلى مستوياته على الإطلاق، وزادت ثقة العملاء أكثر من أي وقت آخر في الألفية الجديدة. لكن لو أننا فكرنا قليلا، ستجد أن هذا الطريق قد ملأه الدين وراء دين، وأن الطريق يسير في اتجاه واحد بلا عوده.
دعونا نبدأ بسوق الخزانة الأميركية البالغ قيمته 15.3 تريليون دولار الذي يعد أكبر سوق سندات في العالم. من الملاحظ أن هذا السوق قد تضاعف في الحجم ثلاث مرات منذ أغسطس (اب) 2008. ولمزيد من التفاصيل، ففي السنوات العشر الماضية نما السوق بواقع 1.5 تريليون دولار فقط عند بداية الحرب العراقية. ويزيد إجمالي الدين الفيدرالي الأميركي عن إجمالي الناتج المحلي الأميركي بواقع 100 في المائة أو أكثر.
في غضون ذلك، فقد تراجعت نسب الدين في الولايات المتحدة مع وصول النسبة المئوية للناتج المحلي الإجمالي إلى أدنى مستوياته منذ عام 2002. وقد تراجعت قوة المؤسسات المالية، فيما رفعت غيرها من الشركات من احتياطي قروضها إلى مستويات لم نشهدها إلا خلال ذروة الأزمة. ليست هذه مشكلة أميركية بحته، ففي مختلف أنحاء العالم ارتفعت الديون الحكومية خلال العقد الأخير سواء من الناحية الإسمية أو كنسبة مئوية لإجمالي الناتج المحلي. ورغم انشغال الأفراد والمؤسسات المالية بترتيب إجراءات الحصول على منزل بعد الأزمة، فقد استندت العديد من المؤسسات الكبرى على تعقب قاعدة المشترين لديها، مثل البنوك المركزية، للإفراط في الاستدانه وتعزيز النمو الاقتصادي.
كذلك قد شجع تخفيض البنوك المركزية لسعر الفائدة الشركات غير المالية على الإفادة المباشرة من أسوق السندات مبكرا وبدرجة كبيرة. وفي مختلف أنحاء العالم فإن حمل الديون حاليا يمثل أكثر من 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 77 في المائة عام 2008، بحسب بيانات «معهد المال الدولي». وأحيانا تستخدم هذه الإجراءات بالشكل الأمثل والمفيد، لكن غالبا ما تشتري المؤسسات أسهمها الخاصة، مما يرفع من قيم سوق المال.
لكن ليست هذه بقصة السوق المتطورة أيضا. فمستوى ديون الأسواق الناشئة أعلى بكثير مما كانت عليه قبل 10 سنوات في ظل معاناة المستثمرين المطالبين بالديون الدولارية من دول مثل تركيا والبرازيل. بالطبع فإن هذه الدول تعانى من ضغوط بسبب رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لسعر الفائدة، مما عزز من قيمة الدولار، وجعل تكلفة وفاء الشركات في هذه الدول بالتزاماتها أكثر كلفة. في كافة الأسواق الناشئة، فإن ديون المؤسسات غير المالية يمثل 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.
من الجدير بالذكر أن مستوي الدين الصيني قد تضخم في مرحلة ما بعد أزمة «ليمان». فالصين مثقلة بدين يقدر بنحو 40 تريليون دولار مقارنة بأقل من 30 تريليون تخص باقي الأسواق الناشئة مجتمعة. في عام 2008، كانت المجموعة مدينة بنحو 16 تريليون دولار، فيما لا تتخطى ديون الصين سبعة تريليون دولار.
لا أحد يعلم أن كانت انتعاشة النظام المالي ستدوم، لكن كل ما نعلمه هو أنها تختلف عن عام 2008. فكل ما حدث حينها أن بعض الناس قد أثقلوا كاهلهم بأقساط الرهن العقاري رغم أن الأمل في السداد كان ضئيلا. لكن هذه المرة، فإن الناس تبدو على استعداد لتجاوز المعقول بقبول تصنيفات ائتمانية أقل بهدف زيادة الفائدة.
تلك هي أزمة ما بعد «ليمان»، ولكي تسحب الاقتصاد العالمي من القاع فقد عملت الحكومات على الاقتراض من المستقبل، وهو أمر يتسبب إما في صداع بسبب إجراءات التقشف أو في زيادة الضرائب، أو في أن يصبح تدخل البنوك المركزية أهم سمات أسواق المال في القرن الواحد والعشرين.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»