هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

النزاع التركي الأميركي يعكس عمق مشكلات «الناتو»

يجابه حلف شمال الأطلسي صيفا حارا وقاسيا للغاية. فبعد معاينة التصرفات التي صدرت عن الرئيس الأميركي إبان قمة الحلف الأخيرة في يوليو (تموز) الماضي، عانى الحلف من ضربة قوية أخرى تتعلق بعضوين رئيسيين وكبيرين من أعضائه؛ الولايات المتحدة الأميركية وتركيا.
وتبلورت حالة النزاع الراهنة حول مصير القس الأميركي أندرو برونسون، الذي تحتجزه السلطات التركية بتهم زائفة تتعلق بدعم الانقلاب العسكري الفاشل ضد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في عام 2016. وضاعف من تفاقم الأمر حزمة العقوبات الاقتصادية، والنبرة المتصاعدة من التهديدات والتهديدات المضادة بين الجانبين، والتكهنات بأن تتجه أنقرة إلى معاقبة واشنطن عبر الانحياز التام صوب موسكو.
ومع ذلك، فإن المشكلات القائمة بين الولايات المتحدة وتركيا هي أكثر عمقا من مجرد الخلاف حول شخص القس برونسون، وهي خلافات ترجع إلى سنوات عدة. وعلى نحو مماثل، فإن المشكلات التي يواجهها حلف الناتو باتت أعمق من التحديات غير المسبوقة التي يفرضها رئيس الولايات المتحدة الأميركية غير المحب للنزعة الأطلسية. ويواجه الحلف الكبير سلسلة من التحديات الهيكلية الأكبر والأهم. وليست هذه التحديات من صنع الرئيس دونالد ترمب بحال، بيد أنه لا يفعل شيئا كي يجعل من حل هذه المشكلات أمرا سهلا.
وتعتبر حالة الصدام القائمة بين واشنطن وأنقرة من الأمثلة الجيدة. فهي ليست بعيدة عن رادار قاطن البيت الأبيض، كما أنه لم يتعامل معها بصورة جيدة كذلك، فمن خلال الإدانة العلنية لتركيا، ومن خلال الإشارة بأن الرسوم الجمركية العقابية المفروضة على الواردات التركية لن تُرفع حتى مع إطلاق سراح القس برونسون، فإن الرئيس ترمب قد منح أنقرة قدرا من التحفيز أو فتح أمامها مسارا ضيقا للعمل على تسوية الأزمة بالطريقة المفضلة لدى واشنطن.
ومع ذلك، كانت العلاقات الأميركية التركية تتحرك على مسار التصادم الحتمي حتى قبل أن يتولى الرئيس دونالد ترمب مقاليد السلطة في البلاد. فهناك مزيج غريب يجمع بين الحملة العسكرية الأميركية لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي (والتي تستعين فيها واشنطن بالجماعات الكردية السورية التي تعتبرها أنقرة تشكل تهديدا وجوديا على نظام الحكم)، مع النزعة السلطوية المحلية المتزايدة التي ينتهجها إردوغان، فضلا عن الخطاب التركي العام المناهض للولايات المتحدة، إلى جانب القرار التركي بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة، والانتشار الموسع للشكوك التركية – وإن كان مجانبا للصواب – بضلوع الولايات المتحدة في محاولة الانقلاب الأخيرة في عام 2016. كانت جميعها تدفع الأمور نحو حافة الأزمة بصرف النظر تماما عمن يدير دفة الأحداث داخل البيت الأبيض.
ويمكننا تلاوة أقصوصة مماثلة حول حلف شمال الأطلسي بشكل عام. فمما لا يرقى للشك، نجح الرئيس ترمب في غرس حالة جديدة من عدم الثقة والشقاق ضمن علاقة واشنطن بالحلف، وكان ذلك يتبدى، قبل كل شيء، من خلال الإعراب عن ازدراء الفرضية النظرية المؤسسة لقيام حلف شمال الأطلسي بأن الولايات المتحدة وحلفاءها باستطاعتهم تعزيز الأمن والازدهار المشترك بشكل أفضل، غير أن أحد أهم الأسباب المؤكدة على النزعة المزعزعة للاستقرار في تصرفات الرئيس دونالد ترمب هو وراثته للحلف الذي كان بالفعل يعاني من تراكمات عدة من الإجهاد والشقاق.
أولا، أزمة تقاسم الأعباء، والتي كثيرا ما أشار إليها الرئيس ترمب. وجانب الرئيس الصواب بالقول إن الحلفاء يمتصون الثروات والقوة الحيوية من الولايات المتحدة، ولسوف تكون الأوضاع شديدة الخطورة إن رجعت أوروبا إلى عصر تفشي سباقات التسلح والمنافسات الأمنية. ولكن ثمة خطأ لا شك فيه عندما تكافح 3 من أغنى دول العالم – وهي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة – في نشر واستمرار عمل لواء عسكري واحد في حالة تعرض دول البلطيق لهجوم روسي محتمل. فبعد حقبة الحرب الباردة، أوقف كثير من البلدان الأوروبية تماما جهود الاستثمار في المجال الدفاعي. وكان من شأن فلاديمير بوتين فيما لحق أن ذكرها بالماهية الحقيقية للقوة العسكرية، غير أن الحلف بات يواجه طريقا طويلا من تقلص الميزانيات الدفاعية لحقبة ما بعد الحرب الباردة.
ثانيا، حتى قبل انتخاب دونالد ترمب رئيسا للبلاد، واجه حلف الناتو اختبارا قاسيا من ناحية تحول المنحى الجغرافي للتهديدات الماثلة. إبان الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفياتي العدائي هو المشكلة الوحيدة والحقيقية للجميع، ولم يكن هناك مكان للاختباء إذا ما نشبت الحرب في أوروبا. أما اليوم، وبرغم كل شيء، توسعت رقعة حلف الناتو وصار الخطر العسكري الروسي أكثر تركيزا في محيط أوروبا الشرقية، ومن ثم تلاشت حالة التماسك الأساسي التي خلقها الخطر الشامل الوحيد المشترك.
لا تزال البلدان الأوروبية الواقعة على الجانب الشرقي من أوروبا تعتبر روسيا التهديد الوجودي الأول بالنسبة لها، لكن الدول الواقعة جنوب خريطة الحلف باتت أكثر خشية من مخاطر الإرهاب وتدفقات الهجرة غير المشروعة. ورغم أن بلدان الجنوب الأوروبي لا يزال يساورها القلق من التدخلات الروسية في الانتخابات العامة وحرب المعلومات، فإنها غالبا ما تكون أقل تأييدا للعقوبات الاقتصادية والجوانب الأخرى المعنية بالمواقف الأكثر حزما وصرامة إزاء موسكو. وكان اثنان من هؤلاء الحلفاء – وهما اليونان وإيطاليا – أكثر تلهفا بشكل خاص لمعاودة العمل مع فلاديمير بوتين، على أمل زيادة الروابط الاقتصادية مع روسيا.
ثالثا، تمر العلاقة بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بتجربة مفادها حقيقة أنه حتى في خضم العداء الروسي المتجدد، لم يعد حلف الناتو، بكل بساطة، مركزا للشؤون العالمية أو الاستراتيجية الأميركية كما كان من قبل. وانخفضت نسبة الناتج المحلي الإجمالي العالمي ومعدلات الإنفاق العسكري في أوروبا بشكل مطرد بالنسبة إلى الحصة الآسيوية منه. وعلاوة على ذلك، فإن التهديد الكبير على المدى الطويل لأمن ونفوذ الولايات المتحدة لا يتواجد في أوروبا، بل على الجانب الآخر من العالم.
ولم يعد حلفاء الناتو في وضع يسمح لهم بمد يد العون والمساعدة لواشنطن في مجابهة الصعود الصيني بالطريقة التي ساعدوها بها من قبل في التعامل مع موسكو إبان الحرب الباردة، أو مع التهديدات القائمة في فترة ما بعد الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط. وحالة العجز الراهنة التي لا يمكن تفاديها تجعل من حلف شمال الأطلسي يحلق في أفق بعيد بعض الشيء عن فلك الإدارة الأميركية، الأمر الذي يسهل على الرئيس دونالد ترمب أن يعلن – وإن كان بشكل غير صحيح – أن الحلف قد عفى عليه الزمن!
رابعا، يواجه حلف الناتو الضربات الموجعة بسبب عدم الاستقرار السياسي الشديد على جانبي المحيط الأطلسي. من واشنطن، ولندن، إلى باريس وروما، بدأت الأحزاب السياسية ورجال السياسة في فقدان الشعبية والنفوذ أمام الحركات الشعبوية والشخصيات الهامشية السابقة. ويساهم عدم الاستقرار هذا في إضعاف حلف الناتو من بعض النواحي. لقد صارت المملكة المتحدة الأكثر اهتماما الآن بشؤون الداخل، والتي يعصف «البريكست» بسياساتها الداخلية تماما، أقل نفعا وفائدة من الدولة الواثقة المتأهبة لمواجهة تهديدات وتحديات الخارج كما كانت.
ومما يثير مزيدا من القلق، عودة السياسات الاستبدادية وشبه الاستبدادية التي تعكر صفو بلدان مثل تركيا، وهنغاريا، وبولندا. وفي بعض الحالات، أعربت حكومات هذه البلدان عن إعجابها الكبير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتباره زميلا مقربا من الجناح اليميني الاستبدادي، الأمر الذي أثار التساؤلات بشأن مدى فعالية الحلف في مكافحة «النزعة التحريفية السياسية» الروسية. كما أن الانبعاث الاستبدادي داخل كتلة الناتو ذاتها بات يختبر الفرضية القائلة إن الحلف يحافظ على حالة الاتحاد ليس فقط من واقع المصالح الجيوسياسية المشتركة وإنما من منطلق القيم السياسية المشتركة كذلك.
وأخيرا، إن ترك ظهور دونالد ترمب كثيرا من الأوروبيين في حالة من عدم اليقين والقلق البالغ إزاء التقدير الأميركي للأمور وسياساتها الخارجية المتبعة، فإن هذه الشواغل والمخاوف كانت قيد التراكم قبل وصول ترمب إلى البيت الأبيض بسنوات.
خلال سنوات حكم جورج دبليو بوش، كان كثير من الأوروبيين مذهولين مما اعتبروه السياسات الأميركية الأكثر إزعاجا في التاريخ، ولا سيما غزو العراق. وخلال سنوات حكم باراك أوباما، ساور كثير من الأوروبيين الأطلسيين القلق بشأن محاولات انسحاب الولايات المتحدة من تولي زمام القيادة العالمية. وكان الخط الأحمر السوري المعلن عنه في عام 2013، عندما أحجمت الولايات المتحدة عن استخدام القوة العسكرية ضد نظام بشار الأسد ردا على الهجمات الكيميائية المروعة التي شنها على المدنيين السوريين، يشكل في حد ذاته حالة خاصة وحادة للغاية في هذا الشأن. فإن أثبتت رئاسة دونالد ترمب للبلاد أنها أكثر إثارة للذهول والجزع لدى المراقبين الأوروبيين، فإن ذلك يرجع بالأساس إلى أنه يجمع ما بين النزعة الأحادية والانحراف الاستراتيجي الذي كرهوه لدى كل من بوش وأوباما.
ولا يعني شيء من ذلك أن حلف الناتو بات محكوما عليه بالفشل تماما. فلم يكن للحلف أن يظل على قيد الحياة طيلة 70 عاما المنقضية إن لم يكن يتمتع بقدر فائق من المرونة والمؤسساتية العميقة. فهو لا يزال أكبر وأقوى تحالف جغرافي وسياسي على مستوى العالم. ولا يزال هناك كثير من القضايا والمسائل التي تحتاج إلى التعاون والتنسيق عبر الأطلسي، ومنها إعاقة التوسع الروسي، والتعامل مع عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومكافحة الإكراه الاقتصادي الصيني، وما إلى ذلك.
ولهذا السبب يعمل الأطلسيون الملتزمون في الولايات المتحدة وروسيا بكل جدية للمحافظة على كيان الحلف وتعزيزه. وهذه الجهود كانت بالكاد بلا جدوى، وضربا لمثال واحد فقط، فقد أحرز حلف الناتو تقدما بطيئا، ولكنه ملحوظ على مسار خلق حالة الردع الحقيقية ضد العدوان الروسي في أوروبا الشرقية.
وهنا يثير دور الرئيس ترمب كثيرا من الإشكاليات. واليوم، كما كان في الماضي، فإن التعامل مع التحديات الرئيسية التي يواجهها حلف الناتو يتطلب وجود قيادة سياسية قوية وقادرة من أعضاء الحلف الرئيسيين. وعلى وجه الخصوص، يستلزم الأمر أن تلعب الولايات المتحدة – وهي الحافز الذي لا غنى عنه في العمل الجماعي – دورا حاسما في الدفاع عن قيم ومصالح الحلف، وفي توحيد صف الحلف بدلا من تقسيمه. ولا يعبأ الرئيس ترمب بلعب هذا الدور إلا قليلا؛ فإن أي زيادات في الإنفاق الدفاعي مما يتزلف بها إلى الأوروبيين من المرجح أن تزيد من الشكوك التي يزرعها بشأن نوايا الولايات المتحدة وكفاءتها، وبسبب الخراب الذي يعد به كلما حل الحلف أو ارتحل.
يمكن للرئيس ترمب أن يشكو من أن الحلف يحاول الدخول في خضم البحار العاصفة حتى قبل أن يتولي دفة القيادة، غير أنه لا يمكنه التهرب من المسؤولية عن فشله في التصرف، باعتباره قائدا يحتاج الحلف إليه في هذه الأوقات العصيبة الراهنة.

- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»