نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»

رئيسة إحدى أعظم جامعات العالم احتفى كثيرون بها ثم انقلبوا ضدها

نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»
TT

نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»

نعمت شفيق... أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»

تصدر اسمها محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت مادةً لتقارير إعلامية عربية وأجنبية تسترجع تاريخها وأصولها ومواقفها من القضايا الاجتماعية والسياسية المختلفة. إنها الدكتورة نعمت شفيق - وشهرتها «مينوش» - رئيسة جامعة كولمبيا الأميركية العريقة، التي وضعتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في «عين العاصفة». وذلك بعدما أثار قرار الخبيرة الاقتصادية الأميركية، ذات الأصول المصرية، استدعاء شرطة نيويورك لتفريق احتجاج لدعم فلسطين في حرم الجامعة، صدمة كبرى في البيئة الجامعية الأميركية والشارع العربي على حد سواء. ومن ثم، مع اندلاع التظاهرات والاعتصامات الطلابية في العديد من كبريات الجامعات الأميركية، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بعاصفة من الهجوم عليها، كادت تمحو سنوات من الاحتفاء بنجاحاتها المهنية كعربية حصدت مناصب مهمة في الغرب.

أثار قرار الدكتورة نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولمبيا الأميركية العريقة (أُسست عام 1754 م) تكليف شرطة نيويورك بتفريق التظاهرات والاعتصامات الاحتجاجية ضد حرب غزة، جدلاً واسعاً وترددات هزت الولايات المتحدة.

إذ تعرّضت شفيق لانتقادات شديدة في الأوساط العربية بحجة «رفضها مساندة القضية الفلسطينية، ودعوتها لقمع الاحتجاجات المتعاطفة مع معاناة غزة». وفي المقابل، واجهت من الجماعات الصهيونية اتهامات بـ«تشجيع معاداة السامية»، و«التقصير بتوفير مناخ آمن للطلاب»، وصلت حد مطالبتها بالاستقالة من منصبها. ووسط سيل الانتقادات، أكدت الأكاديمية المصرية الأصل أمام مجلس النواب الأميركي، الأسبوع الماضي، «قدرة الجامعة على مواجهة معاداة السامية وتوفير بيئة جامعية آمنة». وأردفت أن «التحدي الأكبر أمامها هو محاولة التوفيق بين حرية التعبير للمتظاهرين، وبين خلق بيئة خالية من المضايقات والتمييز للطلبة اليهود الآخرين».

البداية والنشأة

ولدت نعمت شفيق في مدينة الإسكندرية المصرية عام 1962، إلا أنها لم تعش طويلاً فيها. إذ ما إن بلغت الرابعة - تحديداً عام 1966 - حتى غادرت مع أسرتها مصر بعد تأميم أملاك والدها. ولقد استقرت العائلة أولاً في مدينة سافاناه بولاية جورجيا (جنوب شرق الولايات المتحدة)، ولم يكن من أفرادها من يجيد الإنجليزية سوى الأب.

لكن سرعان ما اندمجت الأسرة في مجتمعها الجديد، وتعلمت لغته، لا سيما بعدما نفذت والدتها نصيحة أحد الجيران، واستضافت حفلات للأطفال في منزلها لتكوين صداقات. وحسب شفيق غرست تلك التجربة فيها اهتماماً بقضايا الحراك الاجتماعي، شارحة «عاشت أسرتي حراكاً اجتماعياً، سواء إلى أسفل أو إلى أعلى»، وفقاً تقرير نشرته مجلة «التمويل والتنمية» التابعة لصندوق النقد الدولي في سبتمبر (أيلول) 2023. وبالفعل، عاصرت في طفولتها أحداثاً اجتماعية وسياسية عدة، من حرب فيتنام، مروراً بحركة الحقوق المدنية، وفضيحة «ووترغيت». ومن ثم، تنقلت وشقيقاتها بين عدة مدارس في جورجيا ونورث كارولينا وفلوريدا، إما بسبب تغيير أسرتها محل الإقامة، أو إثر محاولات السلطات الأميركية «تحقيق قدر من التوازن» بين أعداد الطلاب السود والبيض في الفصول الدراسية، ما أثر في اهتماماتها وحياتها في ما بعد.

حصلت شفيق على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والسياسة من جامعة ماساتشوستس - أمهرست عام 1983، ثم نالت الماجستير في الاقتصاد من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بالعاصمة البريطانية عام 1986، فالدكتوراه من جامعة أوكسفورد عام 1989. عائلياً، تزوجت شفيق من العالم رافائيل جوفين، عام 2002 في واشنطن، وأنجبت منه توأماً، انضموا لثلاثة أبناء آخرين لجوفين من زواج سابق.

إنجازات مهنية

بدأت نعمت شفيق حياتها المهنية في «البنك الدولي»، وكانت مسؤولة عن القضايا المتعلقة بأوروبا الشرقية في البنك بعد سقوط «جدار برلين» عام 1989. ومع بداية الألفية، شغلت مناصب أكاديمية في كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا، وفي قسم الاقتصاد بجامعة جورجتاون، قبل تعيينها عام 2008، أميناً عاماً دائماً في وزارة التنمية الدولية ببريطانيا، حيث قادت عملية إصلاح شاملة للمساعدات الخارجية البريطانية. ثم، في سن الـ36 أصبحت شفيق أصغر نائب لرئيس البنك الدولي، كما شغلت منصب نائب مدير صندوق النقد الدولي، وأشرفت على عمل الصندوق في عدة دول أوروبية إبان أزمة الديون في منطقة اليورو في عامي 2009 و2010، وأدارت أيضاً برامج صندوق النقد الدولي في الشرق الأوسط، خلال فترة احتجاجات ما يعرف بـ«الربيع العربي».

وشغلت شفيق كذلك منصب نائب محافظ بنك إنجلترا لمدة 3 سنوات تزامنت مع تصويت بريطانيا عام 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبعدها، عام 2017، عادت شفيق إلى الأوساط الأكاديمية كرئيسة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. وإبان ذروة جائحة «كوفيد - 19»، ألفت كتاب «ما يدين به كل منا للآخر... عقد اجتماعي جديد»، وفيه قالت إن «الناس لن يدعموا نظاماً عالمياً أكثر تعاوناً إلا إذا كان العقد الاجتماعي الوطني عادلاً».

وبعد 6 سنوات مع كلية لندن للاقتصاد، تحديداً في يناير (كانون الثاني) 2023، اختيرت شفيق لرئاسة جامعة كولمبيا بنيويورك، لتغدو أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ الجامعة.

خبرة اقتصادية استثنائية

يرى زملاء شفيق وأصدقاؤها أنها «تجمع بين قوة الشكيمة، وحدة الذكاء والشجاعة والقدرة على التأثير على صناع السياسات». ويعدّونها خبيرة اقتصادية استثنائية تنوّعت حياتها المهنية ما بين صنع السياسات الوطنية، وإدارة المؤسسات المالية الدولية، والبنوك المركزية، إلى جانب العمل الأكاديمي، وإدارة مؤسسات تعليمية. ووصفتها كريستين لاغارد، المديرة السابقة لصندوق النقد الدولي، بأنها «مزيج دقيق من الشرق والغرب؛ فهي مصرية مثلما هي أوروبية بريطانية ومثلما هي أميركية. وهي تدعم الآخرين، وخاصة النساء، عندما يستحقون الدعم، كما أنها لا تصبر على تصرفات الحمقى، ولكنها ستمنح فرصة للجميع».

مُنحت نعمت شفيق لقب «بارونة» وعيّنت في مجلس اللوردات البريطاني، كما كرمتها الملكة إليزابيث الثانية الراحلة في عام 2015. وهي أيضاً زميلة فخرية في الأكاديمية البريطانية، وكلية سانت أنتوني بجامعة أوكسفورد، وزميل أكاديمية العلوم الاجتماعية.

ومن جهة ثانية، منحت شهادات دكتوراه فخرية من جامعات ووريك وريدينغ وغلاسغو في بريطانيا، وأيضاً دكتوراه فخرية من الجامعة الأميركية في بيروت، واختيرت «امرأة العام» في «جوائز القيادة العالمية والتنوع العالمي» عام 2009، وصنفتها مجلة «فوربز» ضمن «أقوى 100 امرأة» عام 2015، وضمن «100 امرأة رائدة في الصناعة المالية الأوروبية» عام 2018، كما كانت ضمن قائمة «100 امرأة أفريقية الأكثر تأثيراً» عام 2021.

احتفاء مصري ودولي

نجاح شفيق المهني أسهم بالاحتفاء بها عربياً ومحلياً في موطنها الأم مصر، ففي عام 2017، ألقت كلمة بالفيديو أمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال مؤتمر الشمول المالي، وكانت حينذاك رئيسة لكلية لندن للاقتصاد.

وفي مارس (آذار) 2019، استضافتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث ألقت المحاضرة التذكارية السنوية لتكريم الدبلوماسية نادية يونس، بعنوان «القيادة العالمية في عالم متغير»، وخلال تلك المحاضرة عمدت شفيق إلى الاستدلال بتجربتها الشخصية على أهمية التعليم، لافتة إلى أنه «بعد خسائر والدها خلال التأميم في حقبة الستينيات في مصر، بدأت أسرتها من الصفر في أميركا». وأردفت: «كان أبي دوماً يقول لنا إن بإمكانهم أخذ كل شيء منكم إلا تعليمكم. لقد كنا مهاجرين عندما ذهبنا إلى الولايات المتحدة، ولا شك أن عائلتي واجهت التمييز العنصري، لكن سُمح لنا أيضاً بالمضي قدماً والاستفادة من الفرص المتاحة».

وفي عام 2020، احتفت وزارة الهجرة المصرية بشفيق، حين شاركت افتراضياً عبر «زووم»، كمتحدث رئيس في فعاليات مؤتمر «مصر تستطيع بالصناعة»، وأكدت «استعدادها لتقديم خبراتها لخدمة وطنها الأم مصر». وبطبيعة الحال، حظي تعيينها رئيسة لجامعة كولمبيا في يناير 2023، بتقدير واحتفاء عربيين كونها عربية مصرية، ترأس واحدة من أعرق الجامعات في العالم، وأيضاً باعتبارها أول سيدة تتولى هذا المنصب الذي تسلمته في يوليو (تموز) من العام نفسه.

الحرب على غزة

غير أن الحفاوة التي صاحبت تعيين شفيق انقلبت أخيراً إلى سيل من الانتقادات لموقفها غير المتعاطف مع التظاهرات والاعتصامات الطلابية المطالبة بوقف الحرب على غزة. وبلغ الأمر حد المطالبة باستقالتها قبل إكمالها سنتها الأولى في المنصب.

بدأت الأزمة مع استدعاء شفيق شرطة نيويورك لفض تظاهرات لـ«دعم غزة»، داخل الحرم الجامعي، ما أسفر عن اعتقال نحو 100 طالب، في خطوة أثارت جدلاً طوال الأسبوع الماضي بين مؤيد ومعارض، وأجّجت احتجاجات طلابية في العديد من الجامعات الأميركية الكبرى. وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي، بالذات، حملات مكثفة ضد شفيق، متسائلين عن «السبب وراء رفضها مساندة فلسطين رغم أصولها المصرية العربية»، وهذا، مقابل الضغوط الابتزازية التي ينظمها مناصرو إسرائيل بمشاركة أعضاء في الكونغرس تحت ادعاءات «تزايد العداء للسامية والمضايقات التي يتعرض لها اليهود داخل الحرم الجامعي». وفعلاً حث 25 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ الأميركي، إدارة الرئيس جو بايدن، على «استعادة النظام في الجامعات التي يشعر فيها الطلاب اليهود بتهديد».

في أي حال، لم يثن الهجوم شفيق عن موقفها، إذ هددت الجامعة، الثلاثاء الماضي، باستدعاء سلطات إنفاذ القانون لإزالة خيام الاعتصام من الحرم الجامعي ما لم يفعل الطلاب ذلك بحلول منتصف الليل. وهذا، قبل أن تعلن، الأربعاء، تمديد المهلة 48 ساعة أخرى إثر «اتفاق مع الطلاب على إزالة عدد كبير من الخيام».

شفيق ترى - وفق إفادة رسمية من الجامعة - أن «المخيم يثير مخاوف خطيرة تتعلق بالسلامة، ويعطل الحياة في الحرم الجامعي، ويخلق بيئة متوترة ومعادية في بعض الأحيان... من الضروري أن نمضي قدماً في خطة تفكيكه». ولكن، في مصر، لا تؤيد الدكتورة نائلة حمدي، العميد المشارك للدراسات العليا والبحوث بكلية الشؤون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، قرار شفيق استدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي.

وفي لقاء لـ«الشرق الأوسط»، علقت حمدي: «كان ينبغي عليها أن تقف إلى جانب الداعمين لفلسطين، والشرطة لم تكن لتدخل الحرم الجامعي دون موافقتها».

أيضاً، في حوار مع «الشرق الأوسط»، قال الدكتور عبد الحكيم القرالة، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الأردن، إن «حرم الجامعة مكان مقدس، وجرى العرف على ألا تتدخل الشرطة فيه... وربما كان على شفيق معالجة الأزمة بنوع من الحكمة بدلاً من استدعاء الشرطة».

جامعات في الواجهة

الواقع أن كولمبيا هي واحدة من جامعات عديدة في الولايات المتحدة شهدت أخيراً موجة من الاحتجاجات الداعمة لفلسطين، وسط ادعاء طلبة وأكاديميين يهود وإسرائيليين وجود «بيئة معادية للسامية جعلتهم يشعرون بعدم الأمان في الحرم الجامعي»، حسب ما نقلته وسائل إعلام أميركية. وفي هذا الإطار أوقف 133 متظاهراً في جامعة نيويورك، ونُظّمت تظاهرات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، وجامعة ميشيغان، وجامعة كاليفورنيا - بيركلي، وجامعة ييل، حيث أوقف 47 شخصاً على الأقل رفضوا الدعوات لإنهاء التجمّع.

حمدي فسّرت تركيز الانتقاد على شفيق وحدها رغم أحداث شبيهة في جامعات أخرى إلى «كونها من أصول مصرية عربية، لذا كانت التوقعات بشأن موقفها مختلفة عما حدث... وينبغي أن يتحلى المرء بالشجاعة حتى لو فقد الوظيفة». أما القرالة فربط قرار شفيق بمراكز القوى داخل النظام السياسي الأميركي واللوبي الداعم لإسرائيل. وكانت الاحتجاجات المرتبطة بالحرب في غزة، أدت لاستقالة إليزابيث ماغيل، رئيسة جامعة بنسلفانيا، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ثم كلودين غاي، نظيرتها في جامعة هارفارد، في يناير. جامعة كولمبيا واحدة من جامعات عديدة في الولايات المتحدة

شهدت أخيراً موجة من الاحتجاجات الداعمة لفلسطين


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.